النبأ اليقين عن العلويين

 

للشيخ المرحوم محمود الصالح

 

 

مقدمة للطبعة الإلكترونية الأولى لكتاب

 (النبأ اليقين عن العلويين )

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين ، وسيد المرسلين سيدنا ابو الزهراء محمد النبي الصادق الأمين ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، والأئمة الأثنى عشر المعصومين ، وعلى أصحابه المنتجبين .

يسعدني أن أقدم وثيقة اسلامية علوية جديدة على موقع المسلمين العلويين .. وهو بكل أسف الموقع الأسلامي العلوي الوحيد على شبكة الأنترنت -  نعم يسعدني أن أقدم كتاب الشيخ المسلم العلوي الشيخ الجليل محمود الصالح رحمة الله تعالى عليه .. وهو كتاب مختصر عن االمسلمين العلويين بعنوان : النبأ اليقين عن العلويين ، والذي صدرت طبعته الأولى عن مؤسسة البلاغ - بيروت - لبنان .عام 1381 ه / 1961 م .وأنا إذ أقدم هذا الكتاب أعتقد أمام الله ورسوله وآل بيته الطيبين الطاهرين ، وامام روح شيخنا الجليل الشيخ محمود الصالح رحمة الله تعالى عليه ، بأني أقدم صورة صادقة عن ابناء طائفتي المسلمة الكريمة بنت العروبة الأصلية ، حيث العلويين اليوم هم احفاد أبطال الفتوحات الأسلامية ، بل هم فدائيو الأسلام المجهولين ..لا عجب والتاريخ لم يذكر أنهم كانوا أهم رجال ومقاتلي الجيش العثماني الذين فتحوا القسطنطينية ، وتعمد التاريخ الطائفي نسيانهم ، وحسبهم جنات النعيم عند ربهم الذي بكل شيء عليم ..

مرة ثانية أناشد وأنا أقدم هذا الكتاب أخوتي ألمسلمين العلويين الذين يتجاوز عددهم الاربعين مليون مسلم علوي / منهم في سورية وحدها أكثر من اربعة ملايين مسلم علوي يشكلون أكثر من 90% من سكان اللاذقية وطرطوس ، ويشكلون اليوم حوالي 60% بالمئة من محافظة حمص ، ويشكلون اكثر من 50% من محافظة حماة ، وكذلك يشكلون غالبية سكان منطقة جسر الشغور التابعة لمحافظة أدلب ، كما يشكل المسلمون العلويون حوالي 25% من سكان محافظة دمشق وريفها وبقية توابع محافظات درعا والسويداء والقنيطرة ..( مع العلم أخوتي أن التعداد في سورية يؤخذ في مكان الأقامة الفعلية وقت التعداد الرسمي للسكان وليس حسب السجل المدني ) .

وبعد أن أمتلأت شبكة الأنترنت بالكثير من التهم والأفتراءات على المسلمين العلويين العرب الشرفاء ، أصبح لأزما على رجال الدين والشخصيات الوطنية العلوية والفعاليات ، والمثقفين  ، والسياسيين ، أن يعملوا جاهدين من أجل إيجاد مرجعية رسمية ترعى شؤون المسلمين العلويين الدينية ، والثقافية ، والتعليمية .. وتدفع عنهم أذى وتخرصات الطائفيين دعاة التفرقة والفتنة وما أكثرهم في يومنا هذا حيث يتجلى العصر الأمريكي الأسرائيلي المتحالف مع زمر العملاء والوضعاء من أجل هدم أركان الوحدة الوطنية وتمزيق شمل الأمة والوطن السوري ..

هلا نهضنا للعمل وأكملنا طريق الأئمة الطاهرين من آل محمد صلوات الله عليهم أجمعين . وسرنا على طريق الشيخ محمود الصالح واخوته العظماء الرحلين .

هل يستجيب أخوتي المسلمين العلويين ، أم يبقون يدفنون رؤوسهم في رمال الأيدلوجيات الفارغة .التي لن تصمد أمام الهجوم الطائفي التكفيري الأرهابي على المسلمين العلويين ، ابناء سوريا العظام .

لقد كان لأجددنا شرف الفتوحات الأسلامية ، وسيبقى لنا شرف الدفاع عن سوريا وعن شعبها ، وعن الوحدة الوطنية التي يتاجر بها(0 أزلام جبران تويني) على الساحة السورية . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، والرحمة لروح شيخنا الجليل المرحوم محمود الصالح على كتابه العظيم(النبأ اليقين عن المسلمين العلويين ) .

 

إدارة الموقع

سوريا-- في  6 /8/2005 م  

 

 

              قالوا في الكتاب

كلمة فضيلة الشيخ(علي عباس سلمان) بحوزه:

            بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الذي أتحفني الدهر بقراءة(النبأ اليقين) لمؤلفه الشيخ(محمود الصالح) الزللو فوجدته كاسمه سراجاً لمن نظر, و نوراً لمن تبصر, أشرق على أفق الوجود و سطع على عالم الكون, و الحق يحمل في نفسه دليل حقيقته, معان كثيرة في ألفاظ قليلة, و كلام صحيح من لسان فصيح,و كلما أعدت قراءته عاد علي الإيضاح و البيان, و ما انتهيت من مطالعته حتى تجلت لعيني الحكمة على فخامتها حاسرة لثامها, و تراءت لي السليقة العربية في جزالتها, فجعلتني أقدر تلك الإشعاعات المضيئة المسفرة عن فؤاد رفيع حساس و نفس كبيرة دراكة, شعرت بأقدس واجب نحوها فانبرت تناضل من ورائه و تعمل على حياطته, على حين فترة من الحق, و مرض من الأراجيف المدونة, و هو- حفظه الله – لموّفيها حقها بحز أصاب المفصل و رمية لم يخطئ بها الغرض, بكشف الحجاب لأولي الألباب لم يدع عذراً لمنكر و لا مرتاب, و عما قليل تمحَّي تلك المجادلات و يظهر الحق أبلج ناصعاً, و لا ريب عندي أن الله يثيبه عليها بكرامة الدنيا و سعادة الآخرة, بعد طول العمر, و لم أتعجب مما قرأته في كتابه و رأيته من الحقائق لصدوره ممن كشف الله عن بصيرته حجب الغفلة و ميزه بسعة الإطلاع على خفي المعقول و المنقول, و اختصه بفطرة شقيقة المروءة و الكرم أخت كل مأثرة و محمدة, فلقد أجاد – حفظه الله – بإفراغ البرهان في مسالك مألوفة بحيث  يسهل نفوذ اليقين و لا تحول الشبهة دون وصول النفس إلى المطلوب, و ذلك الفضل من الله يؤتيه من يشاء, و يمنحه من سبقت له العناية فيه.

فجدير بنا أن نرفع أيدي الابتهال لعزة الكبير المتعال بالدعاء له, بدوام التأييد و المجد و التوفيق لنصرة الحق, و دحض الباطل و إرشاد الضال و جمع الكلمة و إحكام الألفة بين المسلمين أيدهم الله, و جزاه جزاء الخير و خير الجزاء.

                            بحوزه          علي عباس سلمان

           * * * * * *

 

     كلمة صاحب الفضيلة الشيخ عبد الهادي حيدر

                  بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الذي بهرت آياته و أعجزت كلماته و سطعت أنواره و دلت عليه آثاره و الصلاة و السلام على أشرف مكوناته و أجلّ مفعولا ته محمد الهادي الأمين و عترته الميامين و من لحق بهم من أهل اليمين و بعد:

ما كان الله ليطمس على معالم قوم أسسوا بنيانهم على تقوى من الله, و رفعوا قواعدهم على التمسك بثقلي رسول الله, و الاعتصام بولاية خير الأوصياء و سيد الشهداء أمير المؤمنين و إمام الدنيا و الدين مهما تعاقبت عليهم ادوار الظلم و الاضطهاد و عصفت بهم أعاصير الطغيان و الاستبداد, فهم و إن نأت بهم الدار و شط بهم المزار و ذاقوا من أصناف العذاب, و مرارة الاغتراب ما تنوء بحمله غلب الرجال و شم الجبال لم يزدادوا بدينهم إلا تمسكاً و بكريم أخلاقهم و أصيل عروبتهم إلا تشبثاً و لطالما حاول الجبابرة السفاحون و الغزاة المجتاحون من الحكام  الشعوبيين استئصال شأفتهم و اجتثاث أصولهم و اخفات أصواتهم(و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون), فر القوم بولائهم من شاهق إلى شاهق و لاقوا في سبيله الألاقي و دهتتهم بسببه الدواهي فهم لا يأبهون لنعيم الدنيا و زخرفها إذا سلم لهم دينهم و خلصت لهم ولايتهم و سواء عليهم بعد ذلك رضي الله عليهم ولاة السوء أم سخطوا عدلوا بهم أم جاروا, فهم بما هم فيه فرحون و بنعمة الله و عفوه مستبشرون, حفظوا عليهم سجاياهم العربية و شدوا أيديهم على خلائقهم اليعربية من حفظ الذمار و حق الجوار و قرى الاضياف و علو الهمة و كرم النجدة إلى ما هنالك من كرائم أخلاق يتوارثونها كابراً عن كابر.

و قد طاب لفضيلة الأخ الكريم مؤلف هذه العجالة الغراء أن يتغنى ببطولات أمجاده و يترنم بمآثر أجداده, فطلع علينا بهذا المختصر الثمين, و جاءنا فيه بـ(النبأ اليقين) فكان من ناحيتيه الأدبية و التاريخية مثالاً رائعاً و حقيقة ناصعة يهتدي بها من أراد اللحاق بركبه و العمل على غراره فلقد أجاد و أفاد و وطأ أكتاف السبيل للمرتاد فجزاه الله خير الجزاء و وفقه إلى أداء مهمته حق الأداء و ختم لنا و له بالحسنى انه سميع مجيب الدعاء.

                   أبو قبيس                عبد الهادي حيدر 

 

    * * * * * *

          

                 كلمة فضيلة الشيخ(حسين سعود)

                      بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله على صنائعه في خلقه و بركاته في رزقه و الصلاة على نبيه الأمي و رسوله العربي محمد و آله الطاهرين و بعد:

فقد أطلعني فضيلة الشيخ(محمود الصالح) على ما كتبه عن الفئة العلوية في بعض مراحلها التاريخية و ما استعرضه من سيرتها العرقية و الاعتقادية و البطولية و الأدبية و ما رافق هذه المراحل من عواصف و تقاذفها من أمواج, و كيف خلصت من هذه التيارات و نجت من هذه الأمواج, محتفظة بسلامة مواريثها و حيوية مؤهلاتها, فخرجت من قراءتي لما كتبه هذا الفاضل و كأن عينيّ عدستا مصور صوبت حدقتاهما إلى ماض بغيض, مشحون بالأحداث و الفواجع فانطبع فيهما ذلك الماضي بزمانه و مكانه بمآسيه و عبره بدمائه و أشلائه بأبريائه و جلاديه, و لم تكن هذه الصورة المتمثلة لعينيّ لتختلف في جزئياتها و إن اختلفت في كلياتها عن بقية الصور التي ترسمها مخيلة كل متتبع لتاريخنا العربي المصطبغ بالألوان المتعددة و المتخم بالنزوات المريضة, تلك الألوان و النزوات التي كانت تهيؤها شعوبية حاقدة,و تنفذها أجهزة فاسدة و تذهب ضحيتها فئة مجاهدة, و لا غرابة في ذلك إذا علمنا ما كانت عليه حال العرب في ماضيهم القريب من تفكك و تخاذل و تحاسد و تنابذ و ما كان عليه أعداؤهم من تواطؤ و تكالب و دأَب مستمر للقضاء على قوميتهم و تجريدها من جميع مقدساتها و مقومات حياتها.

أما الغرابة كل الغرابة فهي أن يبقى في حاضرنا العربي الذي نعيش فيه أذن عربية تصيخ إلى ما يروجه مستعمر متربص أو انتهازي مستغل أو شعوبي ناقم أو زنديق متنسك.

و أغرب من هذا و ذاك أن لا تؤثر تلك النواحي التاريخية في نفوس العرب تأثيراً يحفزهم إلى النهوض المسرع و اللحاق الحثيث بركب الحضارة العالمية, نهوضاً يهيب بنا جميعاً إلى انتزاع حقوقنا السليبة و يؤمننا غائلة الغازين و بائقة المغيرين.

أليس الأولى بنا معشر العرب عامة و المسلمين خاصة بعد أن أخذنا عن الماضي نتائجه السلبية و عظاته المؤلمة أن نجعل شعار نهضتنا و عنوان وثبتنا(الكلاب تنبح و القافلة تسير) و أن يكون تفكيرنا في الماضي لمجرد أن نستمد منه مادة بنائنا الحاضر لا أن نفنى فيه فناء صوفياً لا تكون حصيلته سوى الخمول فالانحلال فالتلاشي.

لقد أحرج العلوي المسكين في ماضيه فأحوج إلى عزلته و إخفاء حقيقته و استعمال تقيته, و أفسح لدعاة التفرقة و عملاء السوء مجال الدس و الوقيعة فكانت مفتريات المجالس و مفتريات الأقلام, و أين هو ذلك  العلوي المتواري عن الأنظار المغيب في ظلمات الأقدار فيدرأ عن نفسه التهم و أنّى لقلمه المحطم الناضب أن يخط صحائف براءة عروبته و دينه و عرضه من هذه المفتريات, و هل لمن حرمه الجبروت العثماني من أبسط حقوق الإنسان إلا أن يصم أذنيه و يغمض عينيه مستجيراً برحمة ربه و متوسلاً إليه بدقات قلبه مترقباً سطوع شمس الحرية لفتح عينيه للنور و يتنسم عبير العدالة الحرة فيدلي بدلوه بين الدلاء و يكون من مجتمعه العربي لبنة في بناء. 

حاشى الله أن يكون ذلك العلوي(كما يعلمه الله و كما يعلمه أحفاده من طريق مخلفاته الفقهية و تقاليده الموروثة) ممن يدين بغير توحيد الله أو يستسن بغير سنة رسول الله أو يولي وجهه في صلاته لغير بيت الله أو يأخذ أحكامه و فرائضه و حلاله و حرامه عن غير القرآن كتاب الله, و لما كان الشيء بالشيء يذكر أود أن أورد قصة مُثّل دورها في عهد الانتداب الغاشم إذ حضر أحد الحكام الفرنسيين البارزين عند شيخ من شيوخنا و لغرض في نفسه وجه إليه السؤال التالي:(ما هي حقيقة أنسابكم و معتقداتكم و أعيادكم و عادتكم) فنهض الشيخ دون أن يجيبه و تناول القرآن من مكتبته المتواضعة و قال هذا هو القرآن الكريم كتاب الله يجيبك عن جميع ما سألتني عنه ففيه أنسابنا و معتقداتنا و أعيادنا و عاداتنا فسكت ذلك المستعمر و كأنما ألقمه الشيخ حجراً.

و الآن و قد أمّحى ظلام الأمس و انبلج فجر اليوم و اتضح لكل ذي لب أن ما كتب و ما أشيع بالأمس في تجريح عقيدة العلوي أو تسفيهها لم يكن إلا لغايات ملوثة تعافها طهارة الإسلام, دين الأخوة و المساواة, و لم يبق بين ظهراني الأمة الواحدة ممن أرجفوا بأباطيلهم و تهربوا من مواجهة الحقيقة زمناً طويلا من يحاول التدخل في خصوصيات المذاهب الأخرى, إذ لكل منها فروع و اجتهادات يجب احترامها.و هل من غضاضة على العلوي المسلم إذا قال في آذانه(حي على خير العمل) أو أسبل كفيه عند وقوفه لصلاته, أو اشترط العدالة في الإمام المنصوب للصلاة, أو رأى مذهب إمامه(جعفر) أصفى المذاهب مع احترامه للمذاهب الأخرى, أو قال بأن الإمامة شرط بعد النبوة, أو طبق على نفسه بعضاً من أحكام الزوجية و المواريث حال عدم تطبيقها على غيره, كلا و ألف كلا, إلا إذا كان هناك إكراه في الدين كالذي كان, و يأبى الله و الإسلام و المصلحون المتحررون أن يكون.

و لقد أثمرت بحمد الله جهود علماء الدين في الآونة الأخيرة و على رأسهم(جماعة التقريب) فأوجدوا جواً من الهدوء و الثقة المتبادلة و الترفع عن الضغائن, و الجدل العقيم و التفرغ إلى ما هو أجدى تمشياً مع إرادة الله تعالى بقوله(و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فتلاقوا بذلك على صعيد ذلك الصياد المصحر إذ رأى شبحاً فظنه وحشاً و قبل أن يرميه تبينه إنساناً فظنه عدواً مهاجماً و بعد التريث قليلاً اتضح له أنه شقيقه و معينه و شريكه في سرائه و ضرائه فتعانقا.

و من المسلم به أن من يضيء شمعة خير ممن يسبب الظلام, و ها هو هذا المؤلف الفاضل قد أنار(بنبأه اليقين) شمعة أزاحت ظلام القلوب و العيون والأسماع, و كشفت الغطاء عن كثير من خبايا زوايا التاريخ العلوي الماضي و المعاصر, فكان بذلك عضواً عاملاً في مجتمعنا العربي الإسلامي الحر, فله مني و من كل علوي خالص الشكر و من الله سبحانه وافر الأجر.

              جبلة         حلبكو           حسين سعود

 

    * * * * * *

 

 

   كلمة فضيلة الشيخ(محمود سليمان الخطيب) جيبول

و إني لأستميح فضيلته العذر عن عدم إثبات كلمته كلها لضيق المقام و لما في ملخصها من وفاء بالغرض.

                  بسم الله الرحمن الرحيم

و له الحمد

فترة قصيرة من الزمن(باركها الله) تجمعني بالأخ الكريم الشيخ(محمود الصالح) أمد الله ظله, فيقرأ لي من كتابه(النبأ اليقين) عن العلويين ما لم يمتع بمثله سمعي مما هو في بابه, أعجبني أسلوبه في التأليف و قوته على البيان و العبارات الغنية بالفن الأخاذ و السبك الجيد و التصوير البارع الذي يعطيك المعنى المقصود واضحاً كل الوضوح جلياً كل الجلاء مع سلامة اللغة و الدقة في استكمال شروط التأليف.

و لم أكن قرأت له قبل ذلك غير كتابه(المختصر الجامع) الذي وضعه خصيصاً للمبتدئين من طلبة الفقه مع رفيقه الأستاذ(الخير) و لقد أجاد في تبويبه و أحسن في ترتيبه, غير أن أحكام العبادات تكاد تنحصر من النقل في ألفاظ معينة, فلا تظهر فيها براعة الكاتب و لا عبقرية المؤلف, و أنه و الأمر لا يجد على جامد النص ذلك المضمار الذي فيه يبرز و لا ذلك الجو الذي فيه يحلق.

أما في كتابه(النبأ اليقين) و قد رأى ما نفثته أقلام المفترين و ألسنتهم من سموم التهم و الأكاذيب على المسلمين العلويين دافتْها لهم أيدي حفنة من الأثمة المؤرخين و المرتزقة المأجورين الذين حاولوا الحيلولة بين باهر الحق و ظهوره و عملوا لإخفاء إشراقه و نوره, رأى- و ما أكثر ما رأَى- من ذلك, فأبى عليه دينه و يقينه أبت عليه أصالة عروبته و رسوخ عقيدته أبى عليه وجدانه النقي و قلمه المبدع الفياض إلا كشفاً و بياناً و تمحيصاً و تحقيقاً, فسال كالتيار الجارف يأخذ الأفاكين على غرة و ينزل بساحتهم على حين غفلة, ثم يستوي على جودي التاريخ فيهيب بالمؤرخين السارين في مدلهم الفتنة أن يشعلوا في قلوبهم مصابيح الحق,و يسلكوا الجدد على ضوء أنوار الحقيقة فيأمنوا العثار.

ثم تراه, حرسه الله, و قد ملأ نفسه خوف الله و حسن الظن بإخوانه المسلمين ينتحل لهم الأعذار على إيقاعهم بالعلويين و اتهامهم إياهم بما تقشعر له جلود الذين يخشون ربهم, فيعزو ذلك كله إلى أيد أثيمة ليست من العروبة و الإسلام في شيء, إلا ما كان ادعاء, من اليهود و المغول و الأتراك و غيرهم من الشعوبيين الذين حسدوا العرب على نبوتهم و قرآنهم على عزتهم و سلطانهم فعملوا لتفكيك أجزاء وحدة الأمة و تحطيم قوى الإسلام على صخرة العروبة و العروبة على مصرع الإسلام.

من المستشرقين الذين عرفوا بعد دراسة طويلة تشدد العربي المسلم و حماسه لدينه و مبادئه, فأيقنوا أن أفتك سلاح تخرجه معاملهم لتدمير العرب المسلمين هو الإيقاع بينهم عن طريق الدين, فاعتمدوا الحصول على كتب خلفتها خلافات المذاهب الفلسفية في العصر العباسي على ما في تلك الكتب من نحل و ما في تلك النحل من غضاضة على ذويها, فينشرون لكل فرقة من المسلمين من تلك الكتب و النحل ما انطوى إثارة لما فيها من خلاف و تفريقاً بين المؤمنين, و هم على مثل اليقين أن تلك النحل بادت بذويها و منتحليها.

و أنكى من هذا أنهم يعزون ما يعرضونه من تلك النحل و الآراء معمولا به أو مهملا منذ قرون إلى فرقة حاضرة تعيش مع أختها في كنف واحد ليجعلوا من مواضيع الخلافات المذهبية في المسلمين مسارح للمبشرين و المستعمرين.

بمثل هذا يعتذر عن إخوانه المسلمين فلا يسع خلقه الشريف على مسلم مغمزاً بل يجتهد في استنتاج العذر شأن المتروي الحسن الظن فعلى رأيه, و لا غيره, أن كل تفرقة و شقاق في المسلمين مصدره الأجنبي عدو العروبة و الإسلام, و تغافل المسلمين عن رؤية الحقيقة مما أدى هضم بعضهم حقوق البعض الآخر, و يرى, و هو الصواب, أنهم لو عملوا بما تعمل عليه(دار التقريب الإسلامية) اليوم من تقارب و تسامح لما كان للدخلاء سبيل إلى النيل من وحدتنا و الإيقاع فيما بيننا.

و قصارى القول: أن الكتاب بما فيه من رقة التعبير و دقة التصوير و جزالة اللفظ و جلالة المعنى يغنينا عن الإشادة فيه, و يترك للقارئ المنصف أمرة الحكم عليه.

فلك الشكر يا أخي الكريم على ما بذلت من جهود لاستقصاء الحقائق عن العلويين و إبرازها صورة واضحة في كتابك(النبأ اليقين) و على مساعيك المشكورة(و أن ليس للإنسان إلا ما سعى) لإحكام وشائج الإخاء و الإتحاد في قلوب و عزائم العرب ة المسلمين, و لقد أجدت و أفدت, و جئت من الدين بلبابه, و وضعت الحق في نصابه, وفقنا الله و إياكم إلى طاعته و شرح صدورنا بحب محمد و آله الطيبين الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين و جمع شمل المسلمين و ملأ قلوبهم حباً و تسامحاً و إنصافا إنه ولي الإجابة مجيب الدعاء.

            جبلة             جيبول        محمود سليمان الخطيب

 

   * * * * * *  

 

كلمة فضيلة الشيخ محمود صالح عمران(حمص)

             بسم الله الرحمن الرحيم

حمداً لمن جعل الحمد سبباً لزيادة فضله و ذريعة لعزيز أنعامه و وسيلة للكثير من مواهبه العلمية و العملية, و صلى الله و سلم و بارك على نبي الرحمة و القائد الأعظم إلى سبيل الخير و على آله أهل العصمة و مهبط الحكمة صلاة كثيرة طيبة,

و بعد:

أقول لقد أحسن سيادة الأخ الفاضل المجاهد(الشيخ محمود الصالح) في هذه التأليفة القيمة المسماة(النبأ اليقين) فجاء بها في هذا الظرف الدقيق الذي نحتاج فيه إلى أمثال هذا الأسلوب البديع من التأليف, و التطرق في هذه الناحية الجذابة, فأرانا من إنتاجه الخصب و قلمه الفياض ما أزاح عن البصائر ما أُسدل عليها من أغشية الأوهام, مع ما في سلوك هذه الناحية من صعوبة و مشاق و بحث مرير, فجاء الكتاب وفق المسمى, نبأ يقين, و تاريخاً ناصعاً مجيداً مثبتاً فيه ما للعلوي الحر من مآثر جلي و حياة ثقافية نبيلة تؤكد له صدق إسلامه,و تبرئه مما حاك له الساسة المغرضون و ما وصموه به من صفات لا ترتكز على أساس صحيح, جاء النبأ اليقين, مشيداً بطيب عنصر العلوي و صحة عروبته و أصالة إسلامه لا يخالف تاريخه الناصع الحافل بأمجاده و عظائمه و علمائه تاريخ غيره من فرق الإسلام, و لا يقصر عن ركبهم السائر في سبيل التقدم الحثيث, كل هذه صور رائعة تنطبق على الواقع النبيل و تتفق مع المبادئ الإسلامية الحرة, و ما إلى ذلك من مؤهلات و روابط قومية تجمعهم مع إخوانهم المسلمين في ظل المخيم الإسلامي الظليل, و أقول لا أحسبني مغالياً إن قلت أن المؤلف وفقه الله, لم يسبق في هذا المعترك و لم يشق له غبار في معالجة الناحية الشاقة, و حسبك(النبأ اليقين) دليلا على دقة نظره و جودة أفكاره و غزارة مادته و زيادة تقصيه عن أحوال هذه الفرقة الإسلامية المستضعفة(و نريد أن نمن على الذين استضعفوا الأرض) الآية, ناهيك ما أوضح عن الأسباب التي كادت أن تودي بالمسلم العلوي ة تقصره عن قافلة الموثبين إلى الحضارة المتطلعين إلى التقدم و ما مُني به الاضطهاد السياسي زماناً طويلا بغية إقصائه عن حظيرة الإسلام و إبعاده عن ركب التقدم الثقافي, و لما كانت هذه الناحية التاريخية كثيرة الملابسات شائكة المسالك كثيرة التعاريج و كان لابد لسالكها من أن يصطدم بعراقيل جمة و معارضات كثيرة, فكنت ترى هذا المؤلف سدد الله خطاه, أعد لكل أمر في هذه الناحية عدته و هيأ لكل مطلب أسبابه, فجاء الكتاب شافياً, لم يترك ناحية غامضة في تقصي الحقيقة و بيانها و لم يدع يكتنفها الوهم في معترك الملابسات, فرسم للقارئ صورة العلوي بمعناها الصحيح, مغنياً عن كثير من الجهد في طلب الحق المنشود, فجزاه الله عن الإسلام خير الجزاء و أحيا الله العلم و العلماء.

                      حمص                 محمود صالح عمران

 

   * * * * * *     

 

 

 

 

 

كلمة فضيلة الشيخ(داوود الخطيب)

                    بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله على آلائه, و الصلاة و السلام على كافة رسله و أنبيائه, و بعد:

لقد اطلعت على السفر الجليل و الكتاب الجميل الذي كتبه حضرة الأخ الأديب الشيخ(محمود الصالح) المتضلع في أفانين العلوم و الأدب المطلع على متون كتب التاريخ و فروعها على اختلاف مشاربهما و تباين مذاهبها.

و قد سار على الجادة المثلى من طريقة المنصفين و أجهد نفسه و نصب أفكاره لاستقصاء البحث عن ماهية العلويين و عروبتهم و تاريخ ماضيهم و لمن ينتمون من الأسر العربية و قد تناول هذا البحث من سائر أطرافه و نواحيه بتؤدة و روية و إنصاف و أمانة حتى أعطاه بعض حقه و وفاه قسماً مما يستحقه و له بذلك العذر الكافي, لأن المؤرخين على اختلاف نزعاتهم و تباين مذاهبهم طمسوا الكثير من محاسن سلف العلويين و شوهوا وجه التاريخ بتقبيح ما نسبوه إليهم, و ما وصموهم به من التهم و الافتراء عليهم, و لم ينصفهم التاريخ بشيء من ميزاتهم التي كانوا يمتازون بها و يفخرون, ها هي الدولة الحمدانية التي طار ذكرها و ضاع نشرها و طبق الخافقين مجدها و سؤددها, و ما أبلاه رجالها من الجهاد دفعاً للروم عن بلادهم و دفاعاً عن كيان عروبتهم و دينهم, و ها هم الأمراء التنوخيون و الغسانيون و غيرهم من الأسر العربية التي ارتفع مجدها في سوريا و جزيرة العرب و المغرب و مصر و خلافها,و بالرغم من الظروف القاسية التي مُنوا بها من هضم حقوقهم و تشتيت شملهم و تفكيك عرى رابطتهم, ناهيك ما جرى عليهم أيام حكم الرجل الأثيم(السلطان سليم التركي) من السلب و النهب و القتل قصد استئصالهم و قطع دابرهم ليقضي على سيادتهم العربية و عروبتهم الأبية حتى قضي على الكثير من مؤلفاتهم في فنون العلم و الآداب و الفلسفة و رغماً عن كل ما جرى عليهم من الجرائم و الفظائع بقي هذا التراث الكريم, أعني تراث النسب و الأسر الكريمة محفوظاً لديهم و مرموقاً بأنظارهم و مردداً بأفكارهم نقلاً و استناداً و اجتهاداً كابراً عن كابر و حاضراً عن غابر.

و قد تعرض غير واحد ليكتبوا عن ماضي سلف العلويين و يستقصوا تاريخ آثارهم و سيرتهم فلم يفلحوا فيما وصفوه و لم يوقفوا فيما ألفوه, فخبطوا خبط عشواء و كل منهم أحسن أساء, و رموهم بالزندقة و الرفض و الإفراط في الحب و البغض.

و ظني بل يقيني أن التهم التي وُصم بها العلويون و الأراجيف التي ألحقها بهم الأغيار من المستشرقين و المغرضين لم تكن إلا من طريق بعض الغلاة من الفرق البائدة المنسوبة ظلماً للشيعة كالإسحاقية و السبأية و الذهيبية و غيرهم, و العلويون منهم براء براءة الذئب من دم يوسف بن يعقوب.

و الخلاصة أن حضرة الكاتب كتب ما كتب عن بصيرة و إخلاص و تبيين لا عن عصبية و ظن و تخمين, أسأل الله سبحانه أن يسدد خطاه و يوفقنا و إياه للصدق في القول و العمل و الله لا يضيع أجر المحسنين.

        جبلة            تل حويري          داوود سليمان الخطيب

 

   * * * * * *

كلمة فضيلة الشيخ(حيدر محمد)

                      بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الذي علم الإنسان ما لم يعلم و صلى الله على رسله و أنبيائه و حججه و أصفيائه, و بعد:

لم يعرف تاريخ المجتمع الإنساني طائفة من الطوائف اكتنفها الغموض و إعتورها الإبهام و لا فرقة من الفرق حامت الشكوك و ساءت بها الظنون مثل الطائفة العلوية.

فرقة اتفق المغرضون من المؤرخين قديماً و حديثاً على اختلاف نحلهم و تباين أجناسهم و تباعد أمصارهم على الغض من كراماتها و تسفيه آرائها و تشويه معتقدها و تقبيح سيرتها و نكران إسلامها و عروبتها و نسبتها إلى عناصر بعيدة عنها لا تمت إليها بسبب و لا توصلها بها واشجة رحم أو حسب, حتى أخرجوها من حظيرة الإسلام و المسلمين و العرب و العروبة بلا برهان واضح و لا حجة قاطعة إلا بما يمليه عليهم المستعمر السفاح و الشعوبي الحقود, مما أدى بها إلى انعزالها عن المجتمع العربي و الإسلامي  و انكماشها على نفسها و هربها بدينها و ولائها لآل البيت الطاهرين, محتفظة بهما و بتراثها العربي الأصيل من رعي الذمار و حفظ الجار و كرم الطباع و إباء النفس, فاقدة نعمة الاجتماع و ما يسديه من علم و حضارة و رقي, حتى أصبحت لا تعي و لا تفهم ما يحاك من حولها من شكوك و ما يشن عليها من شبه هي منها أبرأ من ذئب يوسف.

و لو منيت غيرها من الفرق ببعض ما منيت به لانحلت و تبددت و لكنها بفضل تمسكها بحقائق الدين الإسلامي الحنيف و روابط الولاية المهرة و تأثرها بأمجادها و أجدادها قادة الفكر و القلم و أرباب السيف و اللهزم بقيت صابرة صامدة لأنياب المستعمر الغاشم و مخالب الطامع المستبد طيلة تلك الأجيال الطويلة الكثيرة و العهود البغيضة المتعددة صمود الصخرة الملساء لضراوة الزوابع النكب و الزعازع الهوج, و لم تزل تتلقى الضربات المريرة الأليمة فتنتقل من جور و ظلم إلى استبداد و فوضى حتى بزغ فجر الحرية السافر و أشرق بنوره السني الباهر فتقلص ظل المستعمر المخيف و شبحه المرعب بظلمه و ظلماته, فظهر ما اكتنزته هذه الفئة المضطهدة المكبوتة المعزولة, من الطاقات القوية و القدرة الجبارة في ميادين السيف و القلم و الدين و الأخلاق, حقائق ناصعة, اعترف بها كل من رأى و سمع بما بذلته من تضحيات عظيمة و جهود شاقة جبارة في الركب العربي الثائر لحريته و استقلاله, و ما برزت به من ثقافة و رقي في الركب الحضاري السائر نحو المجد و العلاء.

تلك الحقائق التي لم ينكرها إلا من أعماه التعصب و بلده الحقد فسلبه نعمة الاعتراف بالحق, شأن الأعمى الذي لا يعترف بمنفعة ضياء الشمس و لا نور القمر.

و من أراد أن يتعرف تاريخ هذه الطائفة تعرفاً بسائر عهودها و عصورها بآمالها و آلامها بقوتها و ضعفها بعزها و ذلها بنهضتها و كبوتها, فعليه بمطالعة كتاب(النبأ اليقين) لمؤلفه الأخ الكريم الشيخ(محمود الصالح) فإنه زاده الله علماً, أصدره كاسمه, نبأ يقيناً, و حقاً مبيناً, و صورة حقيقية لا إبهام بها و لا غموض, ببيان ساحر و لغة فصيحة و أسلوب بديع, يتجلى التجرد و النزاهة بكل سطر من سطوره, و يلوح للمسيء لهذه الفئة من المؤرخين أحسن الأعذار و أفضلها, شأن أساطين الفكر و جهابذة الرأي المحررين من رق الحفيظة و أسر الغريزة.

 

أيدك الله أيها الأخ الكريم و سدد خطاك, فلقد كتبت فأوجزت و أجدت فأفدت و ألفت فأحسنت و أخلصت بما كتبت فجزاك الله عن الدين و الأمة جزاء من أحسن عملا.

             بيت ياشوط       الحصنان          حيدر محمد أحمد

              * * * * * *

كلمة فضيلة الشيخ(سليمان عيسى مصطفى)

             إن من البيان لسحرا             و من العمل لفخرا

                        بسم الله الرحمن الرحيم

لشد ما دهشت و كثر إعجابي بفضيلة الشيخ(محمود الصالح) لدى إطلاعي على كتابه(النبأ اليقين) هذا الكتاب الذي ما أن قرأته بإمعان و تدبر حتى نبل في عيني و عظم في قلبي هذا العمل المثمر المنتج, و تسابقت إلى لساني عبارات الشكر منطلقة من أعماق قلبي مدوية في أذن  الأجيال ثناء على هذا المؤلف لما كرسه من وقت و بذله من جهد و قدمه لبني عصره من مخيض فكره, و حقيق ما يقال, تقدس الرجال بالأقوال لا الأقوال بالرجال.

و مما ظهر لي و تيقنته من هذا الكتاب أنه خارج عن فكرة صائبة و عقل منير, و ما أحوجنا إلى مثله من الكتب النافعة الخالية من الأغراض و المصالح الشخصية, الداعية إلى توثق عرى المحبة و الإخاء و إحكام وشائج الإلفة و التضامن بين هذه الأمة الواحدة, التي عمل في ما مضى الشعوبيون لتفكيك أجزاء وحدتها, فأولى بالنفوس الحرة أن تستجيب لهذه الدعوة الصادقة فتنطلق الروح العربية المتوثبة تشق طريقها إلى المجد مرتقية سلم الفضيلة إلى الفخار و المعالي.

و مما حملني على الإعجاب بهذا الكتاب ما أبانه فيه مؤلفه بأسلوب أخّاذ و جيز, موف بالغرض عن أدوار مرت بهذه الفئة العربية المسلمة, حالت دون ظهورها على مسرح الحياة الحرة النبيلة, و لا ذنب لها إلا افتئات بعض المؤرخين على تاريخها المجيد انتهاكاً لحرمات حقوقها, و إرضاء لأصحاب الطيالس و الصوالج من الحكام الشعوبيين, و لا ريب أن فضيلة المؤلف- مد ظله- قد أسدى خيراً إلى هذه الفئة المؤاخذة بغير عملها, بما أوضحه من معميات في تاريخها, و أظهر من مآثر لرجالها, و لعل الكثير من أبنائها ينشطون بعد إطلاعهم على ماضي سلفهم الناصع فيعملون بجد لإحياء ذكرى أمجادهم الخالدة. فإليك أيها الأخ الصالح أقدم تحياتي, و بكتابك أظهر إعجابي, (و لمثل هذا فليعمل العاملون) أكثر الله من العلم و العلماء و نفع بهما الأمة جمعاء, و جزاك الخير و خير الجزاء.

                             حريصون             سليمان عيسى

 

   * * * * * *

كلمة سماحة المفتي الجعفري في بانياس فضيلة الشيخ(رجب خليل آل السعيد)

                          بسم الله الرحمن الرحيم

حمداً لمن سطع نور وجوده على كل موجود, فأفاض على العالم العقلي إحسانه, و على العالم الكوني أنعامه, سَبَرَ كل شيء خبراً و أتقنه صنعاً, فسبحانه من قدير ما أقدره و بصير ما أبصره, و الصلاة و السلام على النبي العربي الكامل,(الذات الأحمدية) الحامل لواء الرسالة الربانية ليكون الهدى و مشاعله و مدار الحق و مناهله, أما بعد:

فقد أسعدني الحظ البهيج بالحظوة السنية التي هيأت لي الاطلاع الوافر, على هذا النموذج التاريخي الساحر, و الاستهلال الأثري المبين المفعم(بالنبأ اليقين) و البرهان القاطع عبر القرون و العصور التي أدركها العلويون الأوائل في أدوارهم الحازبة و عقودهم اللازبة حتى رضخت لنظمهم الجماعية و دساتيرهم القدسية التي تدارسونها عن أئمتهم المعصومين و فلاسفتهم القدامى الميامين كثير من الأمم المتخلفة عن بلوغ شأوهم و رفعة شأنهم و ساورتهم الكلمة المسموعة و العزة القعساء فينة من الزمن و ردهة من الدهر في جميع مقاصدهم السامية و أوضاعهم السياسية و تطوراتهم السانحة و ربطوها بعجلة العلم و الحكمة و العدالة و الحنكة برجاحة حلومهم الملهمة و حصافة أفكارهم السليمة تمشياً مع الركب الإنساني المتمدن و الحضارة العالمية المتحررة إلى أن جاوزت أهدافهم المثالية السافرة و ثقافتهم الروية الناضجة و ملكاتهم العقلية الصحيحة الفرط الأعلى و قدحي الرقيب و المعلى و استوت عوارفهم على الذروة السامقة و أمرعت بسلطانهم الأرياف المخضوضرة و منادح مشارفها الندية تزدان بكل ريع خصيب, و ما عتموا أن اندفعوا بهمة جبارة نحو الجهاد المقدس في سبيل الحرية و الوطن و الدين و سرعان ما ضربوا بسهم وافر لصد العاديات سواسية مع الغزاة الفاتحين يبتغون الضالة المنشودة و الغاية المتوخاة.

فيا لها نقطة انطلاق عطرية الدمى نقية الجيب مكللة بهالة المجد و الفخار و ذكرى ندوات مجلجلة بأهازيج السمار ملأت الكون صدحاً و تغريداً فجل الواهب و تبارك المانح على ما أسدى هذا العلق النفيس الطاهر و العبق الروحي الريان لهذا الخلف العلوي الأصيل القمين بالعروبة الشماء و المللة السمحاء من خدمات جلى تهيب به الإلزام الخُلقي و الخَلقي فتكسبه عزيمة ومضاء على الجادة الواضحة في رابعة النهار فلا تطلب أثراً بعد عين.

و حسبنا إيضاحاً ضافياً لتلك المعاهدة المشهودة البناءة و النضال الخضم العارم المباركة التي حققها و دبجها على هذا النهج القويم ابن بجدتها الشيخ محمود الصالح أصلح الله به هذا العصر و نفع بعلومه المخضلة النيرة و مواهبه الجياشة المتألقة أرباب الضمائر الحية و الوجدان الحر فانجلت بوميضها اللماح و عبيرها الفواح عن عبقرية فطرية و نبوغ عصامي و نفاح مسدد و صيال مجيد على الوتيرة الوضاءة و النسق المسلكي المرموق ففي الزوايا خبايا و في خبايا الرجال بقايا.

و لا غرو إذ باضعها راويها و محور قطبها بنكت خلابة و طرائف جذابة تبلورت بكل طارف و تليد فأنجبت مخلقة صالحة أضحت نواة صدق و عرفان لم تكذب رائدها و لن تشفع بمثلها جاءت سباقة بتعاليمها الفذة المهذبة و معانيها العويصة المستقصاة و أنها من الفائدة بمكان, ناهيك ما أحرزته من المضامين الجدية الناصعة و الأبحاث المرهفة الحساسة مستقاة من عيون نميرية عذبة و مصادر فياضة روية موثوق بربانيها الإعلام تنبثق عن أنساب الشعب العلوي النبيل و انسيابه من أصول عربية عريقة لكي تجدد ما أندرس من حوادث الأيام الخوالي و ما جرياتها الغابرة, غداة ما تخطى العلويون الأحرار غوارب يمها الزخار و تياره الجارف العظيم.

و قصارى القول أن زمر الكتاب في العهود السالفة أوصدوا باب التفهم الصحيح و أغفلوا شطراً جسيماً و طووا صفحة غراء من رطيب العبر التاريخية الوارفة الأفياء كانت تحتوي محاسن مزايا عليّة أعيان هذه الفصيلة الغربية الإسلامية ذات الحسب الشامخ و المجد الباذخ و لله في خلقه شؤون.

و ختاماً يا أبناء الضاد الظافرين و عرقهم النابض و أحفاد العرب المناضلين و غرسهم الناهض و يا أتباع الحنيفة البيضاء و ملأها الموقنين و يا رهط التراث المحمدي الأصيل أذكركم الله و الواجب على كل من اتخذ الحق يقينا و الإسلام دينا و الحرية عقيدة و سبيلا و الوطن خلا و حبيبا,

 و اليعربيين إخوانا أن يجهد بكل ما زاده الله من بسطة في العلم و الجسم و ما أوتي من شدة بأس و رباطة جأش لدعم صرح الأمة العربية المتحدة الصاعدة فلا أقفل نجمها و لا أفلح خصمها.

                                         مفتي منطقة بانياس

                                         رجب خليل آل السعيد

 

  * * * * * *

 

كلمة المحامي القدير و الكاتب الملهم

 الأستاذ عبد الرحمن اسماعيل  

                    النبأ اليقين صوت الحقيقة

عندما يستبد جور السياسة الحاكمة في أمة من الأمم أو شعب من الشعوب أو نفر من الناس ينأى بأي منهم عن حقيقته الخيرة الفاضلة إلى خيال  زائف فيه الشر و فيه كل ما يستلهمه خيال السياسة الجائرة من حقد السيطرة و حقد الاستبداد.

و هذا ما نزل فعلا بالعلويين أيام محنتهم في ظل الحكم التركي الظالم, فاتهموا في دينهم و اتهموا في أخلاقهم و اتهموا في شتى مناحي حياتهم, و كان من أثر ذلك أن جاعوا و جهلوا و انعزلوا و حيل بينهم و بين ما يشتهون فكانوا و بقوا- رغم اختلاف الزمان- فئة أغفلها التاريخ إلا زوّر المغرضون, و إلا ما خرجوا به على مستلزمات التاريخ و في مقدمتها استقصاء الحقائق و الغوص عليها و استخراجها من مطاوي الزمن و كثيراً ما يفتقر هذا الاستقصاء و هذا الغوص و هذا الاستخراج إلى سعي مجد نشيط و إلى جهد ذاتي مبذول هو جهد المؤرخ الصادق الأمين يعتمد على حواسه سليمة عادلة متآزرة ليصل إلى الحقيقة رسالة التاريخ و هدفه الأسمى, لاسيما و التاريخ لا يعني حوادث و أماكن و أزمنة فحسب, و إنما يعني, أكثر من ذلك, عادات و تقاليد و مستويات و نظماً اجتماعية و أنماطاً معاشيه و نقداً و تحليلا لذلك كله.

و المؤرخ عن العلويين-إذا أراد فعلا أن يصل إلى موارد الحقيقة- هو أفقر ما يكون إلى الدراسة المباشرة و إلى الاستقرار الذاتي, ذلك لما فرض على هؤلاء من عزلة أرغموا عليها ففقدوا فيها أسهمهم من حصيلة التاريخ الحق إلا ما انتزعوه انتزاعاً من قبضة السياسة الجائرة المستبدة على يد مؤرخ عادل و كلاهما نزر يسير.

و تشاء إرادة الله أن يخرج العلويون من عزلتهم و من حصار جوعهم و جهلهم و أن يخرج المؤرخون و قرّاء التاريخ العرب من جمود مسلكهم التقليدي العتيق و من إطار نظرتهم الموروثة المتطلعة إلى هذه الفئة العربية المسلمة بعين مريضة بعمى الألوان فتغدوا و لا محل لزيف التاريخ و لا رواج لبضاعة المغرضين الحاقدين, و يغدو التاريخ عن العلويين ضرورة ملحة ما دام العهد غير العهد و السياسة غير السياسة و الحاكمون غير الحاكمين فلا ظلم و لا استبعاد و لا سيطرة, ثم لا عزلة و لا جوع و لا جهل و لا جمود, و يجيء(النبأ اليقين)- و هو عرض أمين لما أسلفنا – استجابة سخية لتلك الضرورة الملحة,فهو ضالة التاريخ كتبته يد أمينة و أملاه فكر مدرك خبير, و استجمع من مستلزمات التاريخ ما افتقر إليه الأولون ممن أرادوا الحديث عن هذه الفرقة العلوية المسلمة, فالمؤرخ هنا في كتابه هذا إنما هو نفسه خيط في نسيج موضوعه لأنه ابن العقيدة و ابن البيئة و ابن التقاليد.

و لقد كنت أعتزم تناول الكتاب بالدرس نقداً و تحليلاً لأكشف فيه عن مواطن الجودة و الجمال, إن في الأسلوب أو التبويب أو اقتضاب الطريق إلى الغاية أو استجلاء الحقائق التاريخية, و لكني رأيت أن سلوك هذه الطريق التقليدية في الحديث عن كتاب-أي كتاب-إنما يسيء إليه و إلى القارئ معاً.

أما إلى الكتاب فلأنه يضع حدوداً لخصائصه الفنية, و الخصائص الفنية في التأليف مظاهر جمالية-هي في(رأيي) مما يتمرد على التجديد و الحصر, لأن مقاييس الجمال شخصية, ثم لأن من الخصائص الفنية أو الجمالية ما لا يعبر عنه بالقول و لكنه يلمس الحس الفني في مجاهل النفس فيترك فيه أثراً يعرف و لا ينقل.

و أما إلى القارئ فلأن في ذلك افتراضاً مسبقاً لغفلته و تجاوزاً جارحاً لاعتبار شخصيته الناقدة المستقلة, و تفويتاً لمتع قد يظفر بها بنفسه و إملاء لشروط قد لا يرضاها.

و لأن الكتاب الذي بين أيدينا الآن إنما هو- رغم كونه كتاب تاريخ – يمد يده إلى الأدب(و هو فن) ليأخذ منه في ديباجته و أسلوبه طلاوة و حلاوة و إشراقاً, و لأن احترام رأي القارئ و اعتبار شخصيته الناقدة المستقلة أمر واجب الوجود فقد رأيت أن أصد عن اعتزامي لأترك ذلك للقارئ الكريم يدركه بنفسه و يستجليه بحسه الناقد المحلل فلا يحرم من لذة المفاجأة و متعة الاكتشاف لاسيما و الكتاب يحمل في ذاته الحديث عن ذاته.

أما عن المؤلف فحسبه أنه أحب الحقيقة و هي خير و سعى إليها و الطريق وعرة و هذه جرأة ثم قدم ثمار سعيه الجريء

- يانعة دانية القطوف- إلى مشتهيها و تلك فضيلة.

فجزاه الله خير ما يجزى به عشاق الحقيقة و سعاة الخير و دعاة الفضيلة.

                                                 المحامي

                                           عبد الرحمن اسماعيل

 

 

 كلمة العبقري الأديب الأستاذ أحمد علي حسن

             إنصاف المؤلف حق على القارئ

لأول وهلة يستغرب القارئ و هو يطالع هذا الكتاب و يتصفحه كيف أن المؤلف و هو من شيوخ الطليعة في هذا المحيط, يصرف جهوده و يسهر لياليه على مثل هذا الموضوع الذي أصبح البحث به– بالنسبة إلى ما يعالج في هذه الأيام- مقتلة للوقت و مضيعة له, إذ أصبح من المسلم به أن الجماهير و الأفراد أصبحت لا تعنى بمثل هذه الأمور, و أصبح الإنسان في هذه الأيام ينظر إليه من حيث هو إنسان لا من حيث يدين و يتمذهب, و لكن المتمعن المتفحص يرى غير ذلك, خاصة بالنسبة إلى هذه الفئة من الناس التي حامت حولها الشبهات و رفت عليها الظنون, حتى أصبح المتاجرون من أصحاب الأقلام المتضورة كلما عنّ لهم أن يبحثوا عن شقة في مختلف أبناء العالم الإسلامي عمدوا إلى هذه الفئة(العلويين) متخذين من باطنيتهم(لو كان هناك باطنية) أساساً لما يزعمون أنه اكتشاف و أنه فضيحة فيتشدقون بما يتشدقون غير مبالين بهاتف الضمير و لا بصوت الوجدان, لاسيما و أن الكتابة عن المعميات تبقى مسؤوليتها بعيدة عن رقابة المحاسبين حتى يتاح لهذه المعميات أن تظهر و تنجلي.

و لما كثر في الأيام الماضية المتقولون و تعددت مزاعم الواهمين في اكتشاف ما ليس بموجود و إظهار ما ليس بمستتر من أمر العلويين, أصبح وضع هذا الكتاب من الضروريات التي تقتضيها ظروف هذه الجماعة المجمعة على التمسك بمذهب واحد مذهب الإمام(جعفر الصادق)(ع).

لقد كتب كثيرون فيما مضى و سلف من التاريخ, و لكنها كتابة لا للتاريخ و لا للإنصاف, بل لإرضاء العواطف الحقيرة التي كانت تتنزى حقداً و بغضاً لهذه الفرقة المسلمة, إذ أنه غير خاف أن الأساليب السياسية كانت في تلك العصور مبنية على الطعن في معتقد الفئة المناوئة حتى يبرر أصحاب السلطان تدابيرهم الوحشية فيها.

و كان العلويون أول ضحية في التاريخ عند المؤرخين الذين كان كل همهم إرضاء الطيالس و الصوالج و متقلديها.

و إلا فإن الشهرستاني و غيره من الأقدمين لم يكونوا يجهلون أن هذه الفئة من المسلمين غير منافقة في إسلامها, أو يعلمون أنها غير مسلمة, و هؤلاء وحدهم و أصحاب الفتاوى المشهورة بعدهم أجل هم وحدهم الذين شجعوا من كتب فيما بعد أمثال الدكتور(حتي) و غيره ممن تمرغوا في أوحال الموضوع فأساؤوا و أساؤوا و لم يحسنوا.

و ما كان الباحثون مؤخراً في أمر العلويين أمثال الأستاذ(منير الشريف),و(عارف الصوص), و غيرهما, ممن عالجوا و بحثوا إلا حسني النية و إن لم يوفقوا كل التوفيق, و كان الاستنتاج الذي ذهب إليه الأستاذ(الشريف) هو المعقول بل هو الحقيقة بأن عنصراً سيئاً من غير العرب هو الذي انشرح صدره للدس و التفريق بين الملة الواحدة.

و جلاء لما لا يزال مبهماً و توضيحاً لكل أشكال لماذا لا يكون مؤلف كهذا و مؤلف كصاحبه قد أسدى خدمة فعالة للمجتمع الإسلامي عندما يجمع إليه أحد شرايينه النابضة, و ينطلق برأس قلمه كما ينطلق السهم فيطفئ عيون الحاسدين و يترك أصحاب الأغراض و الغايات يتحرقون بنيران فشلهم و حقدهم و غيظهم.

أنا لا أقرظ هذا الكتاب لما فيه من بحث مستفيض فحسب, و إنما أقرظه أيضاً لما فيه من جرأة و لما في باطنه من مجهود للتعبير الصريح عن حقيقة هؤلاء القوم, و التدليل على صادق ما يدينون و ما يعتقدون و ما يتمذهبون.

  و إذا كان قد أرخ و على قلة ما هناك في هذا الموضوع من مصادر فقد استطاع أن يلم بأكبر قسط ممكن في هذا الباب,لأن المؤرخين كما أسلفت لم يعنوا فيما يتعلق بالعلويين إلا بما هو مسيء إليهم, أما من النواحي الأخرى فلم يتعرض لهم مؤرخ قط و هذا من أكبر الأسباب التي تجعلنا نعتقد أن البلاء من التاريخ, التاريخ الجائر الظالم, و أرجو أن يتدبر القراء هذا الكتاب فيغوصوا إلى أعماق الغاية من وضعه و عندئذ لا نشكو نحن و لا صاحبه من قلة الإنصاف.

و لابد لي قبل أن أختم كلمتي هذه من أن أمر على القراء مروراً سريعاً بلمحة و جيزة عن تاريخ حياة هذا المؤلف, فقد وُلد في قرية الزللو من أعمال بانياس الساحل, ليومين مضيا من غرة شوال المبارك سنة(1330هـ) الموافق للواحد و الثلاثين من شهر آب سنة(1912م), من أبوين عربيين صالحين ربياه التربية التي يعرفها من ورع و تقوى و تديّن, و قد تعهده والده الكريم و أحاطه بالعناية(لما توسمه فيه من النجابة) فعلمه القرآن الكريم و الخط  و الآداب العامة, و قد عهد أيضاً إلى أحد الشيوخ العارفين بتعليمه الفرائض و الآداب الدينية فانصرف إليها و أكب على مطالعة ما تيسر منها.

و قد وجد في نفسه ميلا إليها فوقف أكثر مطالعاته عليها بعد أن تزود من كتب اللغة و الآداب ما فيه كفايته, و انصرف إلى الشعر فنظم في مختلف أنواعه و أجاد, إلا أنه في الآونة الأخيرة وقف نفسه على العلم و البحث و خاصة ما يتعلق في أصول المذهب الجعفري فنبغ فيه نبوغاً ملحوظاً و ألــَّف به كتاباً سماه(المختصر الجامع) و هو جامع لكل ما يريده طالبوا هذا المذهب و مريدوه, كما أنه لم يقف عند هذا الحد من الجهد المتواصل فقد شاهدته يتنقل بين القرى المجاورة(دون مقابل و لا غرض إلا خدمة العلم و أداء الواجب) يقيم في أهلها الصلاة و يلقي المحاضرات التأديبية و يبث فيهم روح الدين و يحضهم على المحبة و الألفة و الإخاء, كما أني حضرته أكثر من مرة في مدينة بانياس الساحل يخطب الجمعة في المصلين و كانت خطبه كلها توجيهية تدعو إلى نبذ الأحقاد و الضغائن و إلى تأليف الكلمة و لمّ الشعث و ترك العنعنات الطائفية و العشائرية و ما إلى ذلك من أمور.

هذا بعض ما أعرفه عن هذا المؤلف الفاضل و هو قليل من كثير, و نسأل الله أن يقيض لهذه الفرقة المسلمة الكثير من أمثاله الداعين إلى الإخلاص و الهدى و السداد.

                                                     أحمد علي حسن

 

رأي الأستاذ الكبير و المربي القدير الأستاذ(صالح علي صالح) في كتابنا(النبأ اليقين) توضحه هذه الرسالة

 

سيادة الأخ الفاضل الشيخ محمود الصالح المحترم

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته, و بعد:

يسرني أن أنقل إليكم إعجابي بسفركم عن(العلويين) فقد أعجبت باستقصاء حوادثه التاريخية بتجرد و أمانة, و بإيرادها إيراداً صحيحاً منسقاً لا يجد الناقد ثغرة ينفذ منها إليه, بالإضافة إلى أنكم سددتم فراغاً طالما شغل عقول كبار مفكري العلويين, و لأمر ما لم يلج بابه منهم أحد بدراسة تفصيلية أو تأليف ناجع, و ما من شك أنكم وفقتم توفيقاً وثيقاً بعرض تاريخ هذه الفرقة الإسلامية العريقة بعروبتها, الأصلية بتدنيها, في حقبة من الزمن ليست باليسيرة, في حقبة اكتنفهم فيها الغموض و النكبات و تقاذفتهم الأهواء السياسية و ران على عقولهم الجهل و خيّم عليهم الفقر فساءت حالهم و امتهنت كرامتهم و رموا بالزندقة و الشرك حتى قيض الله رجالاً صالحين من مفكريهم عمر قلوبهم الإيمان, و غمرهم بفيض من التقوى و العرفان فتعهدوا بالتوجيه الديني الصحيح, و الإرشاد الثقافي الحكيم, فحافظوا على كيانهم نوعاً ما, و ثبتوا في المعركة ثبوتاً مقبولا, و إن كانوا لا يزالون في مراحل مؤلمة من التأخر عن ركب الحضارة.

أما أسلوبكم في الكتابة فقد انتظمه التعبير الجزل و البيان الرفيع و الإيجاز البليغ, فأضفيتم على الصورة الحية, متعة الأدب و كياسته, فبارك الله بكم و سدد خطاكم.

 

                                                    المخلص

                                               صالح علي صالح

 

 

   * * * * * *

                    بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى, استشهد العقول على قدمه بحدوث خلقه و على قدرته بعجز ما سواه,و الصلاة و السلام على عباده الذين اصطفى لهداية خلقه و إبلاغ وحيه, و على أقربهم منه و أحبهم إليه, سيدنا  و نبينا محمد صلى الله عليه و آله أئمة الهدى من أهل البيت العترة المطهرة, المعصومين البررة, و على المستضيئين بأنوار هدايتهم و المستمسكين بحبل ولائهم إلى يوم الدين.

أما بعد, لقد تطلعت في صفحة لوجود إلى ما وراء الحاضر, فتبينت بعد تمعن و إعمال فكر و روية أن الفرقة العربية المسلمة العلوية, قد رمتها في ظلمات الأجيال الغابرة ألسنة المفترين و أقلامهم بشتى التهم و الافتراءات, تمشياً مع مصالح ساسة تلك العصور و أهوائهم.

و أشد ما يؤلم الضمائر الحية و يحز في النفوس الحرة إن كان شر ما لقيته باسم الدين, و الدين من ذلك براء, و إنما هو اعتداء سافر على الدين و أهله, أصدره بعض المتجرين بالدين فتيا باطلة ظالمة, كان مقتضاه ما حاق بهذه الفرقة من تقتيل و تخريب و تشريد, مما حدا بها إلى الانطواء على ذاتها قروناً طوالا تفادياً من مآسي تلك العصور الرهيبة.

فدفعني حب الانتصار للحق المهيض و الرغبة في إظهار الحقيقة المعماة لتأليف هذه العجالة, و سميتها(النبأ اليقين) عن العلويين, متناولاً فيها بإيجاز أوضاعهم في شتى مراحل حياتهم, و مفصحاً عن مشكل تلك التهم المفتراة عليهم, مع علمي بخطورة هذه السبيل و وعورة هذا المسلك, لقلة مصادر ما أنا في صدده, إذ أن التاريخ- و لا ريب- حليف المنتصر,و لكني اتكالاً على سعة مفاهيم مفكري هذا العصر الحر, و اعتماداً على وعي الجيل الحاضر أقدمت عليه واضعاً بين يدي الجمهور الكريم حقيقة العلويين بهيكلها الذاتي, عارية من كل طلاء و مجردة من كل زيف, مستنداً على ما وصلني من مصادر خطية و سماعية, يقرها النقل و يقبلها العقل, و لا أدعي من العلم بلوغ المنزلة التي تصبو إليها نفسي و يطمئن لها قلبي.

و أعظم الغرض و أشرف الغاية مما أكتبه عن هذه الفرقة العربية المسلمة, رفع أغشية الجهل بها عن المسلمين, كي يستوضح الحق أهله و تمحي صور الغدر لمنكريه, و أغلى من ذلك رجاء حصول الوئام بين فرق الإسلام, لأدفع الظلم و المفتريات عن العلويين, بل الدعوة إلى توحيد الكلمة و جمع فرق الأمة تلك هي الغاية من وضع هذا الكتاب.

و إني لأرجو من وقف عليه من أهل البصائر النفاذة و الضمائر الحية حمل ما يقصر عن معرفته و تعريفه فهمي,و يضيق بالتعبير عنه ذرعي, على حسن نيته, مهيباً بضميره الحي و خلقه السمح إلى التلطف بإرشادي إلى مواضع الشطط لأتدبرها في طبعة ثانية,و الله تعالى أسـأل العصمة من خطل القول و زلة القلم, و أن يجعل ما أكتبه خدمة للعلم و الحق, مسدداً بالرأي الصواب و القول الصدق, و الله من وراء القصد, عليه توكلت و إليه أنيب.

                                                المؤلف

 

  

                   توطئة و تمهيد

لم تكن في العلويين كتابة خاصة تفيد الفائدة المرجوة عن تاريخهم و الأدوار التي مرت بهم, و إذا وجد عنهم بعض النتف المبعثرة فقلما تكون الحقيقة ذاتها, لأن التحامل السياسي كان يطبع صور الحوادث بطابع خاص منطبق ضرورة على نزعات الساسة و أهوائهم, مما جعل التاريخ يعمي الحقيقة أو يغمض فيها.

و المتأمل المنصف يرى بثاقب بصره و نفاذ بصيرته ما ذاق العلويون في ماضيهم الرهيب من ألوان العسف و ضروبه, و يعاين ما عانوه في مراحل حياتهم الغابرة من مظالم سلبتهم حق مركزهم في الهيئة الاجتماعية, و لكنها ما استطاعت و لن تستطيع أن تسلبهم تراثهم الخالد(عروبتهم ودينهم) .

فالعلويون عرب لا شك في عروبتهم من رزق حسن الانتفاع بالاطلاع على مضامين السير و التاريخ, و استفاد من معرفة ما تحققه أقوالهم و أفعالهم من جميل الصفات في العرب الأكرمين, إذ تبين- و لا ريب- من متابعة مجريات أوضاعهم و أحوالهم أنهم رغم ما نزل بهم من كوارث و ألمّ بهم من مظالم كانوا و ما زالوا يحتفظون بكل ما تصدق عليه مفاهيم العروبة الإسلامية من أخلاق و خلائق, و عادات و تقاليد, و حسبهم بينة على أصالة دمهم العربي أنسابهم المنتهية بالتنوخي, و الغساني, و الكندي, و الطائي, و التغلبي, و غيره, و كفى بها شاهداً عدلاً لثبوت عروبتهم و دحض أكاذيب المرجفين المغرضين.

هاجر العلويون إلى هذه البلاد من مختلف أنحاء الجزيرة العربية مع من هاجر إليها من العرب قبل الإسلام و بعده فرادى و جماعات, انتجاعاً للكلأ و الماء, و لجوءاً إلى هذه المعاقل الحصينة من جور الطغمة الحاكمين غير العرب, فكانت هجرتهم سياسية و اقتصادية و على أكثر من دفعة واحدة, ذكر الأستاذ(منير الشريف) في كتابه(العلويون من هم و أين هم) فقال:

{ لم تكن هجرة العرب الذين سموا بالعلويين مؤخراً إلى جبالهم على مرة واحدة, بل على عدة مرات جماعات و أفراداً, وهجرتهم جماعات كانت على ست مرات على ما أعتقد, الهجرة الأولى, قبل المسيح و محمد(ص) و بين عهديهما, و الثانية, بعد محمد في عهد الفتح العربي الإسلامي, أي في سنة(13هـ) و (636م) و ما بعدها, و الثالثة, في القرن الخامس للهجرة بعد ظهور مذهب النصيرية و البلاء الذي صُب على الذين اعتنقوه و ذلك من قبل الحكام المسلمين غير العرب, و الرابعة, في أوائل القرن السابع للهجرة في زمن الأمير(حسن بن مكزون), و الخامسة, في النصف الثاني من القرن السابع للهجرة بعد الحملة الكسروانية سنة(1305م), و الهجرة السادسة, كانت عند اجتياح(ياوز سلطان سليم التركي) للبلاد, سنة(923هـ) و (1516م), و بين هذه الهجرات العامة كانوا يهاجرون أفراداً إلى الجبل طلباً للرزق أو هرباً من الضغط و العذاب للاحتماء بأبناء طائفتهم هناك}انتهى.

و لقد فصّل العلامة المطران(دبس) في كتابه(الجامع المفصل) و أوضح المؤرخ(عيسى اسكندر المعلوف) في كتابه(دواني القطوف) ما حدث لعلويي لبنان في حوادث سنة(1305م) و هجرة بعضهم إلى جبال اللاذقية و إنطاكية, احتماء بإخوانهم فيها من عوادي رجال(محمد بن قلاون من سلاطين المماليك البحرية) و قد أمرهم بإبادة الطوائف الشيعية في جبال

(كسروان) من لبنان, إذ كانوا أصحاب البلاد آنئذ.

استوطن العلويون هذه البلاد قديماً و اتخذوا الإسلام الحنيف ديناً, و ولاء آل البيت الطاهرين مذهباً, و لوجود فجوة من جفاء بين المسلمين العرب بسبب الفارق المذهبي السني و الشيعي, وجد اللامسلمون و دخلاء الإسلام من الشعوبيين مغمزاً لبث مفاسدهم في جسم الوحدة الإسلامية, فعملوا على إيجاد ثغرة أبعد مدى و أقرب هلكة, ينفذون منها إلى نيل غاياتهم و يبسطون بها سلطانهم,فسلك بعض الدخلاء مذهب التشيع, و انتحى بعضهم مذهب التسنن, مظهراً كل منهم تمسكه بمذهبه الذي انتحله و تعلقه الشديد به, و كلهم معاول هدامة في بناء وحدة الأمة, و عن هذه الطريقة تمكن أولئك الانتهازيون من نفث سموم التفرقة و زرع بذور الشقاق, فانهال بعض المسلمين على بعض بأقسى قوارص التهم التي لا تزال بقاياها مستحكمة في عقول الجهلة, و مصطنعة في نفوس المرتزقة و المغرضين, و كم بين هؤلاء و أولئك من يظن بالعلويين و يحوك لهم من نسيج الأباطيل ما تضيق به نفوسهم و أحسامهم, فيخرج بهم عن رقبة الإسلام معتمداً على قلة وجود الجوامع في أوساط قراهم, و هو يجهل أو يتجاهل الأسباب التي حدت بهم إلى التقاعس عن القيام بواجبهم الديني و إعلان شعائرهم الإسلامية على الوجه الأكمل, و لكن المتحرر من آثار التعصب الأثيم الواقف على سير أوضاعهم المؤلمة يعلم يقيناً مبلغ تمسكهم بأحكام الدين الحنيف و أخذهم بتعاليم الشريعة الغراء, و يشهد على ضوء الحقيقة بإسلامهم و إيمانهم, إذ أي المنصفين تتبع الحوادث التاريخية و وقف على التشريد المرير الذي أعقبه فيهم مجازر السلطان(سليم العثماني) الرهيبة و لا يدرك الحقيقة الراهنة التي حالت بينهم و بين بنائهم الجوامع و قيامهم بالشعائر العلنية, تلك الفظائع المنكرة التي يندى لها جبين الإنسانية خجلا و حياء, و التي درج عليها ولاة الأمر بعده و كفل إحياءها في النفوس ساسة تلك العصور المظلمة الذين فتحوا آذانهم لاستماع أكاذيب الدساسين, من لا هم لهم إلا إذكاء الفتنة في صدور الأمة فقصفوا بأبعاد العلويين عن حظيرة المجتمع, و ألزموهم نكران ذواتهم بما ألحقوه بهم من عواد و مقتريات, حتى أن أحدهم كان لا يستطيع الظهور على مسرح الحياة معلناً تشيعه, و لا ذنب لهم إلا صدق ولائهم لأئمتهم الطاهرين(ع) و إلا أصالة دمهم العربي أراد أولئك الشعوبيين تقديمه قرباناً على مذبح العنصرية إرضاء لعواطفهم الحقيرة, و لم يكن العلويون وحدهم غاية أولئك الجائرين بل العنصر العربي كله, و لكن العلويين أمسوا كبش المحرقة, فقد أرغموهم بما ألحقوه بهم على كتمان ولائهم و سموا ذلك باطنية إسكاتاً لإخوانهم العرب عامة على التنكيل بهم, و اتخذوا من صدق حبهم و محض ولائهم لأئمتهم المعصومين حافزاً لإخوانهم اللاشيعيين خاصة على النيل منهم, و ما نقموا منهم إلا أن آمنوا بعروبتهم و حق آل بيت نبيهم, و تمسكوا بحبل ولائهم.

ذلك الولاء الذي أسرف أعداؤه إلحاق الأذى بالأبرياء من أنصاره, و أفرط أهل البدع بالدس على الخلصاء من تابعيه, و بديهي أن يكون العلويون و هم من أوليائه المخلصين بعض ضحايا أولئك المعتدين المفترين, الذين تفننوا بأساليب الكيد لهم و الانتقام منهم, فلفقوا عليهم التهم و اختلقوا عليهم الأكاذيب, و اتخذوا من باطل ما نخروه عليهم ذريعة للإيقاع بهم,و لم تكن تلك الدسائس المحوكة و المكايد المدبرة التي أحكم فتل حبالها المغرضون, إلا خطة مرسومة غايتها تجريح العلويين في معتقداتهم ليستحيل عند الاعتداء عليهم وجود من يرحمهم في الأمة أو يرثي لهم.

و غير خفي أن الطعن في معتقد الفئة المناوئة لأصحاب السلطان كان في تلك العصور من الأساليب السياسية المبررة لأعمالهم الوحشية فيها و سوء معاملتهم إياها.

و هكذا فقد دس في أوساط العلويين تنفيذاً لخطة الطعن و التجريح مرجفون من غواة الفرق البائدة التي من الظلم نسبتها إلى الشيعة, ممن يسمونهم غلاة الشيعة, الذين آن لرقعة الأرض أن تتخلص منهم فلا أحسب أن فيها اليوم منهم أحداً, و لم يأن للشيعة و خاصة(العلويين) أن يتخلصوا من وباء ادعائهم و فساد آرائهم, و أن يخلصوا من أرجاف منافقيهم الذين تسنى لهم تخلل صفوف العلويين و الامتزاج بهم, خلال ما مروا به من مراحل شاقة و تجارب قاسية, و ساعد أولئك المرجفين تقهقر العلويين في ميدان الثقافة و الاجتماع على إتمام فكرتهم الخبيثة و القيام بدعوتهم السيئة كما أرادها لهم أئمة الجور و قادة الفتن.و ما أصدق ما علله عن واقع الشيعة الراهن فضيلة الشيخ(محمد جواد مغنية) رئيس المحكمة الشرعية الجعفرية في بيروت في كتابه(علي و القرآن) حيث يقول:

{وغريبة الغرائب أن كل شيء في الدنيا قد تغير إلا الكذب على الشيعة و الافتراء على مذهب التشيع, منذ زمن مضى و انقضى كتب شيخ سوء أو فقيه شر, أن الشيعة بما فيهم الإمامية يغالون بعلي, أنهم أخذوا دينهم عن ابن سبأ اليهودي, رمى هذا المفتري رميته و مضى, و لكن بعد أن شق طريق الضلال و التضليل, و إليك ملخص القصة لهذا الافتراء و السبب الباعث عليه, كان الشيعة يثورون على حكام الجور إخلاصاً لدينهم و أمتهم, و كان هؤلاء ينعتونهم بالزندقية و المروق من الدين, لأنهم لا يدينون لهم بالولاء تماماً, كما يتهم بعض حكام هذا العصر القوي التحررية بالشغب و التخريب, و إذا وجدت السلطات المعتدية في عصر النور صحفاً مأجورة تساندها و تنعت الحزب المعارض بأقبح النعوت تزلفاً و طمعاً, فبالأحرى أن تجد في عصر الظلمات من يضع لها الكتب و المؤلفات في تكفير الشيعة, هكذا فعلوا تماماً كما يفعلون اليوم.

لقد اشترى السفاكون من أرباب الأقلام دينهم و ضمائرهم ليقولوا على الأبرياء الأقاويل, و يعلم كل من البائع و المشتري أنه مفتر كذاب, و جاء المتأخر فرأى الكلمة المطبوعة(للسلف الصالح) فقدسها و ركع لها و سجد دون تمحيص و تحقيق, و أخذ يرددها فكرة و أسلوباً بل نقلها بالحرف الواحد كأنها وحي منزل.

إن العالم المنصف إذا تكلم عما تدين به طائفة من الطوائف اعتمد على الكتب المعتبرة عندها, و ما ثبت من مذهبها, أما النقل عن خصومها, و بخاصة خصومة العقيدة و المذهب فهو تماماً كالحكم على المدعى بمجرد إقامة الدعوى و قبل الاستماع إلى الشهود و البينات}انتهى.

و من المسلم به أن الحكم على المعتقدات صحة أو فساداً من أقوال غير أصحابها ظلم صريح لا تقبله العقول السليمة و لا ترضاه النفوس الحرة, و من تدبر بحكمته حكم أولئك الجائرين على معتقد العلويين تبينه من هذا الباب لبنائه على تقول غيرهم فيهم لا على ما قالوه في أنفسهم, فإن الذين يكتبون عنهم يأخذون  في الغالب ما يكتبون عمن لا صلة لهم بمعرفة مذهبهم و أحوالهم كالشهرستاني,و ابن تيمية, و ابن حزم, و أمثالهم, و من زعم من كتاب العصر أنه أسدى إليهم معروفاً فتوسع بمعرفتهم و بالبحث و التنقيب عنهم رجع إلى كتب الغربيين و كتبة الأجانب, كالكاتبين الفرنسيين,الكاتبين (بييرمي) في كتابه(العلويون) و الكولونيل(بول جاكو) في كتابه(دولة العلويين) و غيرهما من المستشرقين رجال الدس و الفساد.

و هل في المستشرقين من يكتب عن المسلمين إلا و يرمي إلى أحد غرضين أو إليهما معاً, أحدهما ديني, و غايته إقامة الشبهات حول معتقدات بعض الفرق الإسلامية حملاً للبعض الآخر على كراهتهم و الإساءة إليهم, و إضعافاً للملكات العقائدية فيهم, ليتسنى للمبشرين الوصول إلى عقول بسطاء الأمة و سذاجها, و ثانيهما استعماري, و غايته بعث الضعف و الوهن في نفوس العرب و المسلمين و بث روح التجزئة و الانقسام فيهم, تصديعاً لكيان بناء وحدتهم, و تبديداً لشمل كلمتهم, ليتمكن الاستعمار من التغلغل في صفوفهم و الشيوع في أقطارهم و بسط نفوذه عليهم و تحكمه بمرافق بلادهم, و على كلا الحالين و بقدر اتساع شقة الخلاف في العرب و المسلمين ينفسح المجال أمام المستعمرين و المبشرين.

و كم في علماء المسلمين و كتابهم من يغفل أو يتغافل عن رؤية هذه الحقيقة الصارخة بسوء غاية أولئك المستشرقين, فيعتبر ما يقرأ في كتبهم و مقالاتهم عن العلويين حقاً مبيناً لا معدى عنه و لا محيد, و يتخذه حجة قاطعة ترغمهم على الاعتراف بصحة ذلك القول الزور و الإقرار بوجود ما ليس بموجود, و لا يخطر على بال أحد أولئك الكتبة و الباحثين الرجوع إلى أقوال علماء العلويين و كتابهم, و العدالة الإنسانية تأبى إلا الأخذ بقاعدة(المرء مأخوذ بإقراره), و ها هم رجال الدين في العلويين- و ما أكثرهم – كتاباً و شعراء فهل يشهد على أحدهم قلمه أو لسانه بغير الإسلام و الإيمان رغم كثرة ما كتبوا و ما يكتبون, و لزاماً على من يود استجلاء غوامض الأحكام في العقائد أن يتبينها من أقلام ذويها.

و لا معول على ما يرى في بعض مصنفات علماء العلويين القديمة مما يتنافى- و محض اعتقادهم بتوحيد الله, و لا يصح أن يعتبر دليلا على إدانتهم بما دسته يدج الإرجاف و الإجحاف في حقول مؤلفاتهم من تهم يعرفها الجميع أنها من مخلفات العصور الحالكة التي مرت بهم, و من مولدات غلاة الشيعة الذين أتاحت لهم ظلمات تلك الأجيال أن يجوسوا خلال ديارهم و يملؤها عليهم بدعاً و أضاليل كما تقدم.

و نحن على ثقة أن ما من منصف يتقصى آثار هذه الفئة العربية المسلمة بتأمل و روية, و يتعمق بدراسة ما يصله من مصنفاتها و أخبارها إلى حد يمكنه من التمييز بين أصيل الأقوال و دخيلها,إلا استبيان وجه الحق فيما يسمع و يرى, و ألزمه وجدانه الحكم لا ببراءة علمائها مما لفق عليهم من تهم فحسب,بل بالذود عن حقهم المغموط و مكانتهم المسلوبة و كرامتهم التي عمل المبطلون للغض منها و العفاء عليها.

و لا يعزب عمن جعل الإنصاف رائده ما حاق بهذه الفرقة في الأيام الخالية من عنت المسؤولين الذين وهبوا آذانهم للوشاة و المفسدين, و جعلوا أنفسهم و قواهم أداة طيعة لمشيئة المرجفين الذين مردوا على النفاق يوردونها من شاؤوا و يصدرونها عمن شاؤوا, دون وازع من ضمير و لا رقابة من وجدان.

و بعد إلفات نظر عقلاء الأمة إلى هذه النواحي الهامة من حياة العلويين, فإنا نطلب إلى المتصدين للحكم في معتقداتهم الأناة و الرفق في نفوسهم و في إخوانهم, و الأمانة و الإخلاص للحق و العدالة قبل إصدار أحكامهم التي و لا ريب, ستكون آنذاك إلى جانب الحق الذي ما زال ينتهج شرعته العلويون, إذ هل عليهم في الدين من حرج و في المجتمع من غضاضة بانتهاج مذهب أئمة الحق أهل بيت الحكمة و مهبط الوحي و مختلف الملائكة, و ماذا عليهم إن اعتقدوا ما أثبت جهابذة العلم و أئمة الفقه و ثقات الحديث كعلاّمة المعتزلة,ابن أبي الحديد, و الإمام أحمد, و الشيخ البحراني, و غيرهم, مما آتى الله سبحانه, أمير المؤمنين(الإمام علياً) عليه السلام, من المعاجز و الكرامات,و أعطاه من علم القضايا و المنايا,كالأحكام الواردة في الفصل الثالث و الخمسين من كتاب(قضاء أمير المؤمنين) للعلامة المحقق الشيخ(محمد تقي) التستري, و ما إلى ذلك من فضائل جمة كمثير عدها دقيق فهمها, تلك الفضائل التي يسوء كارهيها نشرها و يأبون إلا الإساءة إلى معتقديها و الطعن على المحدثين بها.

و حسب تلك الفضائل و الكرامات أن تجري على لسان علوي جاهل لا قدرة له على تعليل أسبابها و لا معرفة له بوجوه الحكمة فيها حتى ترتفع أصوات المعرضين بالنكير عليه مدوية بتكفيره, و يتخذوا من انتسابه إلى العلويين دليلاً على تفريطهم جميعاً, و من قصر فهمه مسوغاً لتسفيه أحلامهم كافه, و هم على يقين أن ما من عالم في العلويين و لا عاقل و لا مفكر يعدل بخالقه مخلوقاً أو يشرك بربه أحداً, و لكنها العصبية البغيضة و الحقد المشبوب في صدور الذين يحبون أن يأكلوا لحم أخيهم ميتاً.

و من مزيج الجهل و الضغينة في هؤلاء و أولئك تكونت فكرة الافتراء الأثيم على العلويين, و انطلقت أسهم الفتك و التجريح في نفوسهم و معتقداتهم, و هبت عليهم أعاصير الظلم الصريح حتى كادت تودي بهم.

و من تحرى ملابسات التهم الملفقة على هذه الفرقة و وصل إلى أعماق الغاية منها, علم يقيناً أنها وليدة الرئاسة و رضيعة الساسة, أحكم وضعها المرجفون و تعاهد نموها المغرضون, و من تملقها بعين بصيرته بدت له مكسوة إلا بالحق و الصدق, عارية إلا من الظلم و الافتراء,(و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).

و أن أثقل ما رزح و يرزح تحته العلويون عبء ما افتراه عليهم أصحاب الأغراض الخبيثة من أفاعيل ادعيائهم الذين كتب لهم الحظ بتسميتهم علويين و هم أداة هدم في بناء هذا الصرح المجيد,و صورة قبيحة عن هذه الفرقة المسلمة المؤمنة يتعمد- نقلها إلى العالم- الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا, بالإضافة إلى ما ألقاه أولئك الأئمة على العلويين من تبعات جهالهم و سذاجهم, الذين قصرت عقولهم و عيّث إفهامهم عن إدراك ما أفاض به العلماء و الفقهاء و المحدثون من ذكر معاجز الإمام علي(ع) التي يستحيل أن يأتي بمثلها إلا من أمده الله بعنايته و أيده بروح منه,و ما دوى من صرير أقلامهم في أذن الأجيال ناطقاً بفضله و معلناً وقوف العقول حائرة دون مقامه, فمن تلك الأقوال المستفيضة ما ينسب إلى الإمام الشافعي و قد ثبت لديه ما اطلع عليه من مناقب خارجة عن المألوف من طاقة الإنسان قوله: قيل للصاحب بن عباد, و الصاحب بن عباد هو من بين قادة الفكر و رجال العلم و الأدب:

قيل لي قل في علي المرتضي                مدحاً تطفئ ناراً موقــــده

قلت هل أمدح من في فضلــــه               حار ذو اللب إلى أن عبده

و هذا علامة المعتزلة ابن أبي الحديد يقول في ذلك و ما أكثر ما يقول:

هو الآية العظمى و مستنبط الهدى       و حيرة أرباب النهى و البصائر

 

 

إلى قوله:

صفاتــــــــك اسماء و ذاتك جـــوهر     بريء المعالي من صفات الجوهر

يجل عن الأعراض و الأين و المتى      و يكـبر عن تشبيهه بالعناصــــــر

و قد يبالغ بالتعبير فيبلغ به الأمر حد العذر لمن شك بمربوبيته فيقول:

تقيلت أفعال الربوبية التي          عذرت بها من شك أنك مربوب

إلى غير ذلك من أقوال صدع أصحابها بها بفضل أمير المؤمنين(ع) فصدعوا بها الألباب الثاقبة فضلا عن العقول القاصرة.

و من المناقب الخارجة عن المألوف من طاقة الإنسان:

إخباره بالمغيبات كقوله لما عزم على هرب الخوارج و قيل له أن القوم قد عبروا جسر النهروان(مصارعهم دون النطفة, و الله لا يفلت منهم عشرة و لا يهلك منهم عشرة) و تفصيل ذلك في المجلد الأول من شرح النهج الحديدي, صفحة (560) و ما بعدها, و صفحة(253) و ما بعدها, و منها, ردة الشمس, و في إثبات ذلك جاء في المجلد الأول من شرح النهج الحديدي صفحة(350) ما نصه: حدث عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي عن أبيه عن عبد خير,قال كنت مع علي أسير في أرض بابل,و حضرت صلاة العصر فجعلنا لا نأتي مكاناً إلا رأيناه أقبح من الآخر حتى أتينا على مكان أحسن ما رأيناه و قد كادت الشمس أن تغيب, قال فنزل علي(ع) فنزلت معه قال: فدعا الله فرجعت الشمس.

 

و في ذلك يقول العلامة ابن أبي الحديد:

يا من له ردت ذكاء و لم يفز        بنظيرها من قبل إلا يوشع

و رب قائل: لو ردت الشمس لاختل نظام الكون و اضطرب عدد السنين و الحساب, فنقول له: إن من يمسك السموات و الأرض أن تزولا لقوي على حفظ توازن الكون من الاختلال إذ يرد الشمس تكريماً لمن أمده بعنايته, و إن من نادى كليمه في النار من الشجرة و حال دون احتراق الشجرة بالنار, و من جعل العصا لموسى حية تسعى و أعادها سيرتها الأولى لهو القادر على عدد السنين و الحساب من الاضطراب, إذ يرد الشمس تعظيماً لمن أيده بروح منه(و هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيدوه و هو أهون عليه) و من البديهي, أن المعجزة لا تكون معجزة إلا بخرقها للنظام الطبيعي و مغايرتها للمألوف الكوني, و منها, قلع باب خيبر و قد كان يعجز الأشداء الكثر هزه فضلا عن قلعه و ريه في الهواء, و قد قال أمير المؤمنين(ع) {والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدية بل بقوة إلهية} و في قلع الباب يقول ابن أبي الحديد(يا قالع الباب الذي عن هزه عجزت أكف أربعون و أربع) إلى ما لا يحصيه قلمي من مناقب نمسك عنها إيجازاً و نحيل المستزيد إلى كتب السير و الحديث.

و إني إذ ألفت سمع القارئ الكريم و بصره إلى أمثال هذه أرسلها من لاشك في دينهم و معتقدهم أناشيد مجلجلة في مسمع الكون يتغنى بها الزمان و الخلود, فإني أطلب إلى إنصافه و ضميره النظر بعين بصيرته, إذا كان أولئك الأعلام من علماء الأمة أعلنوا حيرتهم في هذه الشخصية الفذة, و وقفت حيالها عقولهم جامدة, فما حال متدين بسيط من أبناء هذه الفئة التي مزقتها سياسة الجور كل ممزق, و باعدت بينها و بين المدينة و الاجتماع, فتفشى فيها الجهل و الأمية,و سادها الانكمـاش و الخمول, ألا يحسن بالمنصف و قد أدرك عجز عقول بسطاء هذه الفرقة عن تعليل ما تخطى أسماعهم و امتلك عليهم أفئدتهم من أقوال أولئك العلماء و أمثالهم في أمير المؤمنين(ع), أن يعذرهم على حيرتهم و ضعف مداركهم عن التمييز بين القصد في الولاء و الإفراط فيه.

و هم إذ كانوا يطلقون أعنة ألسنتهم بالتعبير عما انعقدت عليه قلوبهم من حب خالص و ولاء محض لأئمتهم المعصومين صلوات الله عليهم و يفيضون بذكر معاجزهم و كراماتهم حتى كاد يكون ذلك الحب و هاتيك الإفاضة ضرباً من العبادة كانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً لجهلهم نتائج هذا السرف و الإفراط .

أما و قد سطع نور العلم و ارتفع لواء الحرية و خرج أبناء هذه الفئة العربية من عزلتهم لينتظموا في سلك إخوانهم العرب تحت راية العروبة, و يتبؤوا مقعدهم تحت الشمس مع إخوانهم المسلمين, فليس فيهم مسرف في حبه أو مبذر في ولائه, و إذا وجد في أوساطهم أو بين أكنافهم من هذا شأنه فهو- ولا ريب- دخيل عليهم أو من بعض أدعيائهم, و هم من إسرافه و تبذيره برءاء.

و حسب المسترسل في خيانة نفسه و إخوانه المتقول عليهم ما ليس فيهم قطعاً لعذره و دحضاً لحجته ما صدع به من الحق سماحة الإمام الحجة(محمد الحسين آل كاشف الغطاء) عطر الله رمسه, في كتابه(أصل الشيعة و أصولها) بعد أن أتى على بعض ما يقول كثير متصوفي الإسلام و مشاهير مشائخ الطرق و بعض فرق الشيعة غير الإمامية, إذ أعلن مسمعاً من له أذن واعية فقال:

(أما الشيعة الإمامية و أعني بهم جمهرة العراق و إيران, و ملايين المسلمين في الهند, و مئات الألوف في سوريا و الأفغان, فإن جميع تلك الطائفة من حيث كونها شيعة يبرؤون من تلك المقالات, و يعدونها من أشنع الكفر و الضلالات, و ليس دينهم إلا التوحيد المحض و تنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق أو ملابسة لهم في صفة من صفات النقض و الإمكان و التغير و الحدوث, و ما ينافي وجوب الوجود و القدم و الأزلية, إلى غير ذلك من التنزيه و التقديس المشحونة به مؤلفاتهم في الحكمة و الكلام) انتهى.

و لا أعتقد أن في عقلاء المسلمين من يخامره الشك أو يساوره الريب في سلامة دين هذه الفئة الإمامية(العلويين) و صحة معتقدهم, إلا أن يكون مغرضاً أو متأثراً بعامل التعصب البغيض, و هذان داء مجتمعنا و منبع بليتنا, و لا يصلح أن يداوي منهما من أصيب بأحدهما أو بكليهما, إلا بعد التثبت من شفاء قلبه مما قد أصيب به.

و من أولى مسألة الخلاف في الأمة حقها من العناية و التحميص رآها لا مسوغ لها و لا عذر للعاملين عليها, و إنها لسائرة بالجميع إلى مهاوي الذل و الهلكة.

و لقد حث المسلمين على الألفة و الاجتماع و حضهم على الإتحاد و الإخاء سماحة المغفور له, الإمام آية الله(السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي) في كتابه الذي صنفه خصيصاً لهذه الغاية و سماه(الفصول المهمة في تأليف الأمة) و ندبهم فيه إلى ما ألزمهم به الذكر الحكيم من الإخاء و الولاء.

(إنما المؤمنون إخوة)(و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض).

و استقى فيه حقيقة أسباب المنابذات و الشغب في حقل دنيا المسلمين و العرب, فخلص إلى الصريح اللباب منها و دعا إلى طرحها و التخلي عنها, فكان على رأيه(و لا غيره, إن من أهم الأسباب التي أثارت ريح الفتنة و الاضطراب, جرأة من اسماهم بقضاة الرشوة و علماء السوء على تبديل أحكام الله و استخفافهم في ما شرع سبحانه من حلال و حرام, فأفتوا بتكفير المؤمنين و وجوب قتل المسلمين, و استرقاق نسائهم و ذراريهم, نزولاً عند رغبة ملوك الجور تحسيناً لأفعالهم, أو طمعاً بما في أيدي ولاة الجنف تصحيحاً لأعمالهم, و في ذلك يقول في الفصل التاسع من(فصوله المهمة) صفحة(151) ما نصه: و لا غرو فإن علماء السوء و قضاة الرشوة يبدلون أحكام الله بالتافه, و يبيعون الأمة بالنزر القليل.

فقاتل الله الحرص على الدنيا, و قبح الله التهالك على الخسائس, ما أشد ضررهما و ما أفظع خطرهما, نبذ أولئك الدجالون حكم الله وراء ظهورهم طمعاً في الوظائف, و حكموا بما تقتضيه سياسة ملوكهم رغبة في المناصب, و أرجفوا في المؤمنين و فرقوا كلمة المسلمين, و لولاهم لتعارفت الأرواح و ائتلفت القلوب و امتزجت النفوس و اتحدت العزائم فلم يطمع بالمسلمين طامع, و لم يرمقهم من النواظر إلا بصر خاشع, و لكن و أسفاه استحوذ عليهم أولئك المفسدين الذين ينحرون دين الله في سبيل الوظائف و يضحون عباده في طلب القضاء و الإفتاء, فتنا كرت بفتاويهم وجوه المسلمين و تباينت بأراجيفهم رغائب الموحدين, حتى كان من تفرق آرائهم و تضارب أهوائهم ما تصاعدت به الزفرات و فاضت منه العبرات و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم,و قال في الصفحة(141) من الفصل و الكتاب ما نصه:

(فهلموا يا قومنا للنظر في سياستنا الحاضرة و عرجوا عما من شؤون السياسة الغابرة فإن الأحوال حرجة و المآزق ضيقة لا يناسبها نبش الدفائن و لا يليق بها إثارة الضغائن, و قد آن للمسلمين أن يلتفتوا إلى ما حل بهم من هذه المنابذات و المشاغبات التي غادرتهم طعمة الوحوش و فرائس الحشرات)

و لقد استعرض سماحة المغفور له الإمام الشيخ(محمد الحسين آل كاشف الغطاء) مواقف بعض علماء المسلمين و كتّابهم من بعض, و حذر من التمادي في هذه الخطة التي تجر إلى سوء العاقبة, فقال في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه(أصل الشيعة و أصولها) تحت عنوان(كيف يتحد المسلمون).

(و هيهات أن يسعدوا ما لم يتحدوا, و هيهات أن يتحدوا ما لم يتساعدوا, فيا أيها المسلمون لا تبلغون الاتحاد الذي بلغ به آباؤكم ما بلغوا بتزويق الألفاظ و تنميق العبارات أو نشر الخطب و المقالات و ضجيج الصحف و عجيج الأقلام, و ليس الاتحاد ألفاظاً فارغة و أقوالاً بليغة و حكماً بالغة, مهما بلغت من أوج البلاغة وشأو الفصاحة, ملاك الاتحاد و حقيقة التوحيد هنا, صفاء نية, و إخلاص طوية, و أعمال جد و نشاط, إلى أن قال : الاتحاد أن يتبادل المسلمون المنافع, و يشتركوا في الفوائد, و يأخذوا بموازين القسط, و قوانين العدل, و نواميس النصف, فإذا كان في قطر من الأقطار كسوريا أو العراق طائفتان من المسلمين أو أكثر فالواجب أن يفترضوا جميعاً أنفسهم كأخوين شقيقين قد ورثا عن أبيهما داراً أو عقاراً فهم يقتسمونه عدلاً و يوزعونه قسطاً, و لا يستأثر فريق على  آخر فيستبد عليه بحظه و يشح عليه بحقه(و من يوق شيح نفسه فأولئك هم المفلحون) فتكون المنافع عامة, و المصالح في الكل مشاعة, و الأعمال على الجميع موزعة.

و ليس معنى الوحدة في الأمة أن يهضم أحد الفريقين حق الآخر فيصمت, و يتغلب عليه فيسكت, و لا من العدل أن يقال للمهضوم إذا طالب بحق أو دعا إلى عدل أنك مفرق أو مشاغب, بل ينظر إلى طلبه فإن كان حقاً نصروه و إن كان حيفاً أرشدوه و أقنعوه, و إلا جادلوه بالتي هي أحسن مجادلة الحميم لحميمه و الشقيق لشقيقه,لا بالشتائم و السباب, و المنابزة بالألقاب, فتحتدم نار  البغضاء بينهما حتى يكونا لها معاً حطباً, و يصبحا معاً للأجنبي لقمة سائغة و غنيمة باردة.

و بعد أن استعرض بعض من يغمزون بالشيعة و أئمتهم من كتّاب العصر و خوّف من مقابلتهم بالثل من الكتاب الآخرين, قال:

فلينظر عقلاء الفريقين إلى أين ينتهي حال المسلمين من هذه الهوة السحيقة و ما الثمرة و الفائدة من كل ذلك, إلى أن قال:

ينسى الكل أو يتناسى عدوهم الصميم الذي هو لهم بالمرصاد و الذي يريد سحق الكل و محو الجميع, و يبث بذور الشقاق بينهم ليضرب بعضهم ببعض و ينصب أشراك المكر لصيد الجميع, و لا يسلم المسلمون من هذه الأشراك المبثوثة لهم في كل سبيل حتى يتحدوا عملاً لا قولاً و جداً لا هزلاً) انتهى.

و إنّا إذ نتطرق في البحث موضوع كشف النقاب عن صورة العلويين لتبرز للملأ على حقيقتها, و إذ نتعرض لتزييف وجوه الافتراء عليهم لم يكن ذلك منا تحيزاً إلى فئة و لا جرياً وراء عاطفة, و لا لدفع الظلم عنهم و لا لفتح باب الجدل و الخصام, و لكن لرفع أغشية الجهل بهم عن الرأي العام فتلزم كلا حجته, أخذاً برأي القائل(إن ترك الافتراء كما هو دون دحض يقيم من شأنه و يبقى عليه) و القول الحق أن احتمال الأذى و الإغضاء على القذى في سبيل وحدة الكلمة و جمع فرق الأمة هو الأمة هو خير ثواباً و خير أملاً, و من خلال هذه السطور نناشد علماء المسلمين و كتَّابهم استخدام ألسنتهم و أقلامهم للمصلحة العامة و الدعوة إلى الكلمة الجامعة غير الفرقة بدلا من المشاكسة و المهاترة و تبديد الشمل و تمزيق الصفوف.

و ما أحوجنا نحن المسلمين و العرب جميعاً إلى العمل متحدين لتطهير بلادنا من رجس المستعمر العدو المشترك, الذي في كل قطر من أقطارنا حوت من حيتانه فاغر فاه يتربص بنا الدوائر(عليه دائرة السوء) و يغتنم تعدد نزعاتنا و أهوائنا فرصة للانقضاض علينا و ابتلاعنا عضواً فعصفوا.

و ما أولادنا نحن المسلمين بالمسارعة إلى الأخذ بما دعا إلى الإسلام أو دعا الإسلام إليه, ألا و هو الوحدة و الإخاء ضاربين بما سوى ذلك عرض الجدار.

و إذ نحن في صدد الكلام عن العلويين و بحث أوضاعهم و أحوالهم, فإنا نطلب إلى القارئ المنصف نظرة و لو عابرة بتجرد إلى الأدوار العصبية التي اجتازها العلويون في ماضيهم الرهيب ليرى كيف أنهم أرغموا على إنكار ذواتهم و كتمان ولائهم, مما شجع على قبول التقولات فيهم و تصديق المفتريات عليهم, و هل آلم من ذلك و قد ألم كله بهم في تلك العهود البائدة.

و إزاء ما منوا به من جور الحكام و سخط الرعية فقد استبدلوا بالجوامع زوايا يؤدون فريضة الصلاة فيها أو في بيوتهم, مولين وجوههم شطر المسجد الحرام, و ما كان ليزيدهم إهمال العالم المتمدن أمرهم و إسداله حجاب النسيان عليهم إلا إيماناً على إيمانهم و تمسكاً بخالص حبهم و ولائهم لأئمتهم المعصومين عليهم السلام.

و ها هو هؤلاء ما إن أفاء الله عليهم نعمة الحرية و شهدوا أنوار الإخاء و المساواة طالعة عليهم من ثنايا رائد القومية العربية(أمد الله ظله) متجسمة بمرسوم جمهوري يعلن سيادته فيه الاعتراف بالمذهب الجعفري في هذه الجمهورية الحبيبة, و ما إن عاينوا صورة التقريب و الوحدة يرسمها قلم الأستاذ الأكبر(أعلا الله مقامه) قراراً يقرر فيه تدريس مذهبهم الجعفري إلى جانب إخوته المذاهب الأربعة في الجامع الأزهر الشريف.

ما أن عاينوا ذلك و تحققوه حتى حطموا قيود العزلة و انفلتوا من عقال الانكماش و جروا في ميادين الانطلاق سراعاً لتشييد بيوت الله و إعلان شعائرهم الإسلامية وفق فقه مذهبهم, مرتفعة أصوات مؤذنيهم كل يوم و ليلة خمس مرات تشق عنان الفضاء بالتكبير لمن له الملك الكبير, و تنطلق حناجر خطبائهم في أيام الجمع و الأعياد بالثناء و الحمد له سبحانه و الابتهال إليه تعالى أن يمد ظلال هذا العهد الميمون و يديم حياة عملاقه الجبار خلوداً و بقاء, و يمنح العرب و المسلمين على يديه ما يصبون إليه.

ها هم العلويون يعلنون- و قد أذن لهم بالإعلان- من على رؤوس الإشهاد إقراراً بألسنتهم و اعتقاداً بأفئدتهم و عملا بجوارحهم بأنهم يبرأون إلى الله من أية عبادة ما سوى عبادة الله رب العالمين.

(ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق) فيطهروا نفوسهم من أضار الماضي الوبيء و ينقوا قلوبهم من جراثيم التعصب البغيض, فينظروا إلى أخيهم المسلم العلوي نظرة تتنافى و تلك النظرة الأولى إذ حسبنا جميعاً بالماضي عظة, نظرة تحول بينهم و بين التورط في نسبة الأضاليل و الأباطيل إلى إخوانهم في الدين, نظرة إخاء و صفاء, نظرة معرفة و اعتراف بأن العلوي هو بحمد الله ممن تأدب بآداب الإسلام و تمسك بتعاليم القرآن و وفر حظه من الإيمان و مكارم الأخلاق و لا يعتمد إلا على الكتاب و السنة و ضرورة العقل.

ألم يأن لنا نحن المسلمين و العرب جميعاً- و قد استضاءت عقول الأمم بأنوار الاكتشافات العلمية الجديدة, و اتجهت أبصار العالم إلى ما تحدثه أدمغة علمائهم في الكون من استخدام الذرة, واستنارت قلوب الشعوب بأضواء مصالحهم العامة- أن ندرك أن سر توقفنا عن مجاراة الأمم في ميادين التسابق العلمي و الحضارة العالمية, هو انصياعنا لأحكام النزعات و الأهواء التي أحكمها في نفوسنا دعاة التفرقة و الانقسام,فكانت طوال أجيال مضت و إلى وقت قريب شغلنا الشاغل عن التطلع إلى الحضارات و عاملا قوياً لإرساء قواعد المستعمر العدو الألد في بلادنا.

ألم يأن لنا أن ندرك هذه الحقيقة فنتدارك مغبة أمرنا بالوحدة و التضامن, تغلباً على إيثار الغلبة, و تطهيراً للنفوس من رجس الأنانية, و ضرباً على أيدي المرتزقة و المغرضين, و تحصيناً لبلادنا و مصالحنا من الخونة و المرجفين.

ألم يكف الأمة ما لقيت من قضاة الرشوة و شيوخ الزور و علماء السوء, دعاة الخلاف و الفتنة في الأمة, العاملين على تفكك أجزاء وحدتها و فصم عراها و تفريق جماعتها.

إلى متى هذا الإرجاف و فيم هذا الإجحاف, ألم يأن لنا أن نأخذ بالأمر الإلهي الصادع بالحق(و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا).(و لا تنازعوا فتفشلوا)(و لا تكونوا كالذين تفرقوا و اختلفوا من بعد ما جاءهم البينات و أولئك لهم عذاب عظيم)

(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا).

و بعد هذه الدعوة الصادقة إلى اتفاق الكلمة و اجتماع القلوب و اتحاد العزائم و إحكام الألفة في النفوس و تطهير الصدور من الأحقاد و الضغائن, و قبل أن أمسك قلمي الذي كاد يزلق فيخرج بي عن الغرض من هذا الموجز اعتذر من طول مقدمته و لئن طالت عما قدرت لها فلأني رأيتني مضطراً لأن أعرض فيها طائفة من الآراء قد لا أجد لها مكاناً خلال الأبحاث القادمة.

و لقد سبق في خطبة هذا الكتاب أن الغرض منه تقديم صورة العلويين الحقيقية هدية للجمهور الكريم, و لا أراني في عرضها إلا غنياً عن التحدث عنهم في العصرين الأموي و العباسي محيلا من شاءهم هناك إلى مراجعة كتب التاريخ.

أما ما ألزم نفسي بحثه فهو الكلام عنهم منذ قيام الدولة الحمدانية في حلب حتى فجر النهضة الحديثة, و رتبته على أربعة فصول و خاتمة متوخياً بذلك كله الإيجاز.

الفصل الأول: في تعريف العلوي

                     دين العلوي و مذهبه

                               معتقدات العلويين

                                       عادات العلويين    

الفصل الثاني: في ذكر بعض رجال الفكر القدماء في العلويين

الفصل الثالث: في الأدوار التاريخية التي تعاقبت على العلويين

الفصل الثالث: في نهضة العلويين

الخاتمة

    

  

 

  

 

                      تعريف العلويين

ألحقت بالعلوي ياء النسبة على التبعية ,إذ أنها كما لا يخفى نسبة ولائية طبيعية ,وعلى هذا فكل امامي منتسب بولائه للامام علي عليه السلام فهو علوي ,ذلك الولاء المقدس المنبثق عن قول النبي صلى الله عليه و آله و سلم في غدير خم و قد جُعل له من أغصان الدوج مرتفع فارتقاه و خطب الناس فقال بعد كلام طويل و الكل شهود0

(من كنت مولاه فعلي مولاه,اللهم وال من والاه, و عاد من عاداه,و انصر من نصره ,واخذل من خذله) وعلى هذا المورد القدسي يلتقي كل شيعي مهما اختلفت نزعته و بعُد منبته,إذ لابد للفرع من اللحاق بالأصل ,و مما لا ريب فيه انه أصل مذهب التشيع و عليه بنيت قواعده,و لهذا المذهب أحكامه و مآخذه و لتابعيه مجتهدون ثقات تفاضلت رتب معارفهم0

الأمر الذي أدى إلى انقسام هؤلاء التابعين على أنفسهم فرقاً تبعاً لتعدد مجتهد يهم و تفاوت مدارك عقولهم في القضايا الفقهية,و كانقسام المسلمين كافة إلى سني و شيعي لاختلافهم في بعض أحكام الدين الفرعية,و انقسام أهل السنة إلى مذاهب أربعة تبعاً للأئمة الأربعة ,و لولا إغلاق باب الاجتهاد عندهم لكثر مجتهد وهم و تعددت نزعات تابعيهم شأن إخوانهم الشيعة0

وما من غرضنا في هذا المقام البحث في الخلاف و المختلف به,و إنما لنقيم الدليل على أن الفرقة العربية المشهورة بنسبتها الولائية العلوية,هي إحدى تلك الفرق المسلمة الشيعية0

و رب قائل لمَ تفرد العلويون بهذا الاسم دون غيرهم من الشيعة و هل كانوا يعرفون به قديماً أم أن الأجنبي عرفهم به,فأقول له:

لا يتطرق الشك إلى قلب عاقل في علوية كل شيعي امامي,و إن تعددوا فرقاً و بعدوا منبتاً,إذ ليس التشيع إلا موالاة أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام. و الأصل في تفرد هذه الفرقة (العلويين) بحمل هذا الاسم هو حملهم ما منوا به و أوذوا وحدهم دون إخوانهم الشيعة في سبيل صدق ولائهم لأئمة الحق من مرارة التشريد و الإقصاء عن المدينة و الاجتماع,و وحشة سكنى المغاور و الأنفاق,و بحملهم مشاق الحياة و شظف العيش وقسوة أحكام الحكام الشعوبيين,مما اضطرهم إلى الانزواء في هذه الجبال الوعرة الضيقة ,و اتخاذها مدخلات,حتى أصبحت بعد حين من الدهر تشاطرهم حمل هذا الاسم و يضحي أداة تعريف لها,فهي اليوم تعرف بجبال العلويين.هذه العوامل و الأسباب مجتمعة و منفردة بعض ما صان لهم شرف الانتماء إلى هذا النسب الولائي المقدس و حفظ لهم حق التفرد به.

و لم يكن عرفان العلويين بهذا الاسم هدية من الأجنبي إليهم,أو منه منَّ بها عليهم كما يزعم المرجفون و أصحاب الأغراض السيئة,و إنما هو اسمهم الذي كانوا به يعرفون قديماً,إذ لا جدل أن علويي اليوم هم أحفاد أولئك العلويين القدماء الذين زانوا مفرق الأمة العربية بأكاليل من غار انتصاراتهم على الروم أيام الدولة الحمدانية,و الذين كانوا يرفون به آنذاك تمييزاً بينهم و هم أنصار الأئمة من أبناء  

علي(ع) و بين أنصار الخلفاء العباسين,ولا اعتقد أن مطلعاً على ما في بطون السير و التاريخ يخامره أدنى شك في علوية الحمدانيين وأشياعهم و معرفتهم آنذاك بهذا السم,و ما زال أحفادهم يعرفون به إلى أن سلبهم ساسة الجور علن انتسابهم إليه بعد ظهور مذهب النصيرية,و استبدلوهم به اسم النصيريين سيراًعلى خطة الطعن و التجريح التي اعتادوا سلوكها حيال هذه الفئة العربية المؤمنة بحق آل بيت نبيها,بغية عزلها عن إخوانها الشيعة,و تبريراً لأعمالهم الوحشية معها و تمكيناً لهم في الأرض  على حساب ظلمهم و إرهاقها,و لقد تم لهم ما أرادوا,فرقوا بين العلويين و بين إخوانهم الاماميين,و ألزموهم اسم النصيريين رضوا أم أبوا,و أفاضوا بدعوتهم به حتى أمسى اسمهم الذي به يدعون,و علمهم الذي به يعرفون,إلى أن كانت الحرب العالمية الأولى و أخذت شمس الحرية تنشر خيوط أشعتها على عالم الكون مؤذنة بمحو ظلم الاستعمار و قطع دابر المستعمرين,فهب العلويون لمقاومة (فرنسا) حجر الزاوية في بناء الاستعمار الغاشم ويلحون بوجوب تعريفهم باسمهم الحقيقي ( العلويين ) مما اضطر الفرنسيين إلى إعلان دعوتهم به.

و من البد يهي أن الأجنبي إذ اعترف – مرغماً- باسمهم فعلى نية مبيتة بالشر و قلب مليء بالخبث و الضغينة,ولم يقصد- جرياً على سياسته المبنية على قاعدة( فرق تسد ) -  إلا إحياء أراجيف سلفه الشعوبيين أعداء العروبة و الإسلام,من تفكيك أجزاء الوحدة الإسلامية و فصم عراها و تفريق جماعتها,      

( استنكاراً في الأرض و مكر السيئ و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ). و لكن الله سبحانه حفظ للأمة وحدتها و صان لها كيانها و رد كيد الظالم إلى نحره.

فمما سبق وضحت أسباب تفرد العلويين بهذا الاسم و قدم عرفانهم به,و دحض المزاعم بتعريفهم به من قبل الأجنبي,و تبين أن لا فضل عليهم بإعادة اسمهم إليهم,إذا كان الزمن عاد فسمح لهم بمسايرة ركبه بعد أن أسلمهم للانزواء و حال بينهم و بين الانطلاق في ميادين التقدم أمدا طويلاً.

و ها هم أولاء ما إن سلكوا مناهج الحياة الحرة محتفظين بلغتهم و دينهم و أنسابهم و تقاليدهم حتى اقر العالم بوجودهم واعترفوا باسمهم.

و لكم يسرني و أنا أحد أفراد هذه الفرقة في عهد الحرية و الطمأنينة أن أكتب عنها بوضوح و جلاء.

 

         

 

 

                  دين العلوي و مذهبه

الدين في العرف اللغوي يأتي على معان كثيرة نجتزي بأربعة منها التوحيد,قال تعالى :( ألا لله الدين الخالص ) أي التوحيد الخالص, الجزاء, قال تعالى:(مالك يوم الدين ) أي يوم الجزاء, الحكم, قال تعالى:( و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله)  أي في حكم الله, الطاعة, قال تعالى:( و له الدين واصباً ) أي الطاعة دائماً. و الدين في الاصطلاح الشرعي هو ما شرعه سبحانه و تعالى لعباده من شرعة أو منهاج على لسان رسول كريم,و قد ينحصر الدين في قضايا خمس,(1)معرفة الخالق (2)معرفة المبلغ عنه (3) معرفة ما تعبد به و العمل به (4) الأخذ بالفضيلة و رفض الرذيلة (5) الاعتقاد بالمعاد و الدينونة. وهذه القضايا الخمس يجمعها الإسلام الذي أكمل به الباري الأديان الإلهية و حصر تعريفها به بقوله تعالى:( إن الدين عند الله السلام ) (سورة آل عمران) و الإسلام شرعاً, هو الإقرار بالشهادتين و الالتزام بأحكام الشرع, و لغة, هو الطاعة و الانقياد, و لقد عرفه أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ,بقوله: ( لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها احد قبلي ,الإسلام هو التسليم, و التسليم هو اليقين, واليقين هو التصديق, و التصديق هو الإقرار, و القرار هو الأداء, و الأداء هو العمل فهو بهذا يشمل اعتقاد العباد و أفعالهم, ة الإسلام و الإيمان مترادفان و يطلقان على معنيين  (أعم و أخص ) و يعتمد المعنى الأعم على ثلاثة أركان, التوحيد, و النبوة , و المعاد ,  ( من آمن بالله و رسوله واليوم الآخر ) فمن دان بتوحيد الله و نبوة خاتم النبيين محمد(ص)و اعتقد بيوم الجزاء فهو مسلم حقاً له ما للمسلمين و عليه ما عليهم و من أنكر ركناً من هذه الأركان الثلاثة فليس بمسلم و لا مؤمن , و يعتمد المعنى الأخص على الأركان الثلاثة المذكورة و على ركن رابع هو العمل بدعائم الإسلام الخمس و هي : الصلاة , و الزكاة , والصوم , و الحج , و الجهاد , ( من آمن بالله و رسوله وعمل صالحاً ) وهذا المعنى هو الإيمان المعرف بقول أمير المؤمنين (الإمام علي)ع, ( الإيمان اعتقاد بالجنان , و إقرار باللسان , و عمل بالأركان). فتبين أن ما ورد في الذكر الحكيم من الإيمان بالمعنى الأعم و هو ما يراد به الاعتقاد فقط كان إسلاماً, و ما ورد في الذكر من الإيمان بالمعنى الأخص و هو ما يشتمل على الاعتقاد و العمل كان إيماناً , و على هذا فكل مؤمن مسلم و ليس كل مسلم مؤ مناً    والأصل في هذا التقسيم قوله تعالى : (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبكم )( سورة الحجرات) و قد زاده تعالى إيضاحاً بقوله الحق : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون )(سورة الحجرات) و هذه حجة تقطع بان الإيمان , قول, و يقين, و عمل .

 

 

 

فدين العلوي التوحيد المحض و تنزيه الخالق عن كل مشابهة للمخلوق , و الإقرار بنبوة سيد الرسل محمد(ص) و الاعتقاد بالمعاد , و العمل بدعائم الإسلام الخمس , و يتفق و جميع الشيعة الامامية على زيادة ركن  خامس على هذه الأركان الأربعة التي هي أصول الإسلام و الإيمان بالمعنى الأخص عند جمهور المسلمين , ألا و هو الاعتقاد بالإمامة , يعني إن العلوي يعتقد أن الإمامة منصب الهي يختار الله لها من يشاء اختياره للنبوة و الرسالة , ( وربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة ) و كما أن تأييد النبي بالمعجزة نصّ عليه من الله , فالبارئ سبحانه يأمر نبيه بالنص على من ينصبه إماماً للناس من بعده , للقيام بالوظائف التي كان يقوم بها النبي سوى أن الإمام لا يوحى إليه ,( أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ) والفرق بين النبوة و الإمامة واضح جلي , و هو أن النبي يبلغ ما ينزل إليه وحياً من ربه و الإمام يبلغ ما يتلقاه من النبي مع تسد يد الهي , فالنبي مبلّغ عن الله و الإمام مبلغ عن النبي . و الأئمة عند العلويين اثنا عشر كل سابق ينص على اللاحق , و الاعتقاد بعصمتهم شرط في صحة إمامتهم و إلا لزالت الثقة بهم , و أولهم آخر الأوصياء لآخر الأنبياء , الإمام علي المرتضى , فالحسن المجتبى , فالحسين شهيد كربلاء , فعلي زين العابدين ,فمحمد الباقر ,فجعفر الصادق , ( و إليه ينسب فقه أهل البيت ) فموسى الكاظم , فعلي الرضا , فمحمد الجواد , فعلي الهادي فالحسن العسكري , فمحمد بن الحسن المعروف بالمهدي القائم المنتظر حجة العصر و الزمان , صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين .

 و العلوي شديد التمسك بولائه حريص على الاعتقاد بأنهم أمناء الله في أرضه, و خزنة علمه, و حججه على خلقه, و أنهم أئمة معصومون. و ( عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون ) ما ضل من تمسك بهم , و لا زل من استضاء بنورهم , أخذاً بالنصوص الواردة الصريحة , و الأحاديث الثابتة الصحيحة , عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم إذ أهاب في الجاهلين و صرخ في الغافلين , فنادى:( يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا , كتاب الله و عتر تي  أهل بيتي ) . و قال صلى الله عليه و آله و سلم  ( إني مخلف فيكم الثقيلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي , ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي ), و قال صلى الله عليه و آله و سلم:( إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي, كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض , و عترتي أهل بيتي لن يغترفا حتى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ) و قال صلى الله عليه و آله و سلم : ( مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق, و إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له ). و الأحاديث الآخذة بالأعناق إلى أهل البيت و تضطر المؤمن إلى الانقطاع في الدين إليهم أكثر من أن تحصى

و قصارى القول فالعلوي مسلم, مؤمن يدين لله دين الحق

 دين الإسلام الذي لا مراء فيه و لا شك يعتريه, كتابه القرآن و قبلته الكعبة, يعرف ما افتراضه الله عليه في يومه و عامه و عمره, فيؤدي من ذلك ما يستطيع, يأمر بالمعروف و ينهي عن المنكر و يصلح ما أمكنه الإصلاح , و يحلل ما حلل الله و رسوله, و يحرم ما حرم الله و رسوله, لا يخاف في الله لومة لائم, يرجع في فتاويه المذهبية و مسائله الفقهية إلى أحكام مذهب الإمام ( أبي عبد الله جعفر الصادق ) عليه السلام, و من أولى من الإمام الصادق بالتأويل و معرفة أحكام التنزيل, و هو فرع شجرة النبوة و الإمام الحق ( و الحق أحق أن يتبع ) و صاحب البيت أدرى بالذي فيه. و عن هذا الإمام المعصوم يأخذ العلوي الفقه و يروي العلم و على مذهبه يقيم الصلاة

و فيه يؤلف مصنفاته. 

 

                     معتقدات العلويين

لا خلاف البتة بين المسلمين العلويين و بين بقية إخوانهم المسلمين في جوهر الدين و أصوله, فأصول الدين عندهم هي نفسها الأصول الخمسة عند جميع الاماميين و هي : التوحيد, و النبوة, و الإمامة, و المعاد, وفروعه تنقسم إلى عبادات و معاملات أوضحها الكثير من علمائهم في كتبهم و مصنفاتهم.

أما في أفعال العباد التي لا تخرج عن أحد ثلاثة كما عرفها أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام بقوله : (الأعمال ثلاثة : فرائض, و فضائل, و معاصي, فأما الفرائض فبأمر الله و مشيئته و برضاه وبعلمه وقدره يعملها العبد فينجو من الله بها, و أما الفضائل فليس بأمر الله لكن بمشيئته و برضاه و بعلمه و بقدره يعملها العبد فيثاب عليها, و أما المعاصي فليس بأمر الله و لا بمشيئته و لا برضاه و لكن بعلمه و قدره يقدرها لوقتها فيفعلها العبد باختياره فيعاقبه الله عليها لأنه قد نهاه عنها فلم ينته ).

في أفعال العباد التكليفية كلها يعتقد المسلمون العلويون أن الله عز شأنه خلق العبد و منحه الاستطاعة على الفعل و الترك قطعاً لعذره في ترك ما أمر به أو فعل ما ينهى عنه, و أوجده مختاراً له حرية الإرادة و المشيئة في أفعاله الشخصية فهي منه و له, لم يجبره البارئ تعالى على فعل و لا ترك بل العبد اختار ما شاء منهما مستقلاً, و لذا يصح عند العقل و العقلاء مدحه و مثوبته على فعل الخير و لومه و عقوبته على فعل الشر, و هو موكول في أعماله إلى نفسه بعد أن وضحت له الخير و الشر وَ وُعِد وَ أوعِد عليهما المثوبة و العقوبة على ألسنة الدعاة الصادقين, ( لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )(سورة النساء).

و بذلك يكون العباد مريدين لأفعالهم غير مجبرين عليهما و لا مهملين, بل إنهم عنها مسؤلون و عليها محاسبون, إن خيراً و إن شراَ بدليل قوله تعالى : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراَ يره و من يعمل مثقال ذرة شراَ يره )(سورة الزلزال).

و قد يأتي العقل – إثباتا للعدل الإلهي – إلا الإقرار بوجوب تحمل العباد مسؤولية أعمالهم, و صدورها عن إرادتهم و إتيانهم إياها بمحض اختيارهم لا جبر و لا إهمال, إذ لو كانوا مجبرين لبطل الثواب و العقاب, و لا فضل لمحسن و لا مسؤولية على مسيء, و لو كانوا مهملين لانتفى الإقرار بوجود المبدع الأول و قدرته على تدبير مكوناته و قوة سلطانه عليها, و لاختل نظام هذا الكون البديع و عمت الفوضى سائر أجزائه, و لم تكن فائدة في بعثة الأنبياء و إنزال الكتب و الوعد والوعيد. و اقطع الأدلة و أقواها على منح العباد الاستطاعة على الفعل و الترك و وكول أعمالهم إليهم و إلقاء تبعاتها عليهم هو قوله تعالى : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت )(سورة البقرة) و مما جاء في تفسيرها, لا تكلف نفس إلا ما تسعه قدرتها فضلاً و رحمة أو ما دون مدى طاقتها بحيث يتسع فيه طوقها و يتيسر عليها, كما في قوله تعالى : (يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر) (سورة البقرة) و هو يدل على عدم وقوع التكليف بالمحال, لها ما كسبت من خير و عليها ما اكتسبت من شر, لا ينتفع بطاعتها و لا يتضرر بمعاصيها غيرها, و مثله قوله تعالى :   ( و نفسٍ و ما سوّاها فألهمها فجورها و تقواها )(سورة الشمس) و قد جاء في تفسيرها للقاضي (ناصر الدين البيضاوي ) عليه الرحمة, ( إن إلهام النفس الفجور و التقوى إفهامها و تعريفها حالهما أو التمكين من الإتيان بهما )

و مما لا ريب فيه إن البارئ سبحانه لا يحاسب العبد عما يخرج عن حدود سيطرته و لا يكلفه بما ليس في مقدوره, و لذا فإن الله تعالى لا يحاسب العبد على حركة قلبه و دورة دمه, و لا يسأله عن كونه طويلاًَ أو قصيراً أو غير ذلك من الأعمال التكوينية, و إنما يحاسبه على أعماله التكليفيه و هي كل ما دخل في حدود الأوامر و النواهي مخاطباً به البالغ العاقل يحاسبه لأنه لم ينفذ الأمر مع قدرته على التنفيذ أو لم يترك النهي مع قدرته على الترك, و هو بهذا مسؤول عما هو قادر على فعله أو تركه فحسب.

و لقد وضحت المحجة و قامت الحجة للبارئ سبحانه على خلقه بتعريفه إياهم سبل الخير و الشر في غير موضع من كتابه الكريم, كقوله تعالى : ( و هديناه النجدين ) أي طريقي الخير و الشر .

و من أسمى التوجيه و ابلغ الأقوال في الاستطاعة و وكول أعمال العباد إليهم و حملهم مسؤوليتهم جواب الإمام الحسن بن علي عليهما السلام, للحسن البصري و قد كتب إليه يسأله:

أما بعد, فإنكم معشر بني هاشم الفلك الجارية و اللجج الغامرة و الأعلام النيرة الشاهرة, أو كسفينة نوح التي نزلها المؤمنون و نجا فيها المسلمون, كتبت إليك يا ابن رسول الله عند اختلافنا في القدر و حيرتنا في الاستطاعة, فأخبرنا بالذي عليه رأيك و رأي آبائك عليهم السلام, فإن من علم الله علمكم و أنتم شهداء على الناس و الله شاهد عليكم ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم, فأجابه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام :

 بسم الله الرحمن الرحيم وصل إلي كتابك و لولا ما ذكرته من حيرتك و حيرة من مضي قبلك إذاً ما أخبرتك, أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره و شره إن الله يعلمه فقد كفر, و من أحال المعاصي على الله فقد فجر, إن الله لم يطع مكرهاً و لم يعص مغلوباً و لم يهمل العباد سدى من المملكة بل هو المالك لما ملكهم و القادر على ما عليه أقدرهم, بل أمرهم  تخييراً و نهاهم تحذيراً, فان ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صاداً, و إن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمن عليهم بان يحول عنها بينهم و بينها فعل و إن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً و لا ألزموها كرهاً, بل منّ عليهم بأن بصرهم و عرفهم و حذرهم و أمرهم و نهاهم, لا جبلا على ما أمرهم به فيكونون كالملائكة و لا جبراً على ما نهاهم عنه, و لله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين, و السلام على من اتبع الهدى )

و أراني غير محتاج إلى التنبيه على جلالة هذا القول الفصل و فخامة معانيه و وضوح حجته بمنح العباد استطاعة الفعل و الترك و تحميلهم مسؤوليات أعمالهم, و من تدبر ما جاء فيه تنبيه فيضاً قدسياً من أنوار الحق المشرقة في بلاغة أمير المؤمنين علي عليه السلام, إذ يقول – و على ما يقول يعتمد اعتقاد المسلمين العلويين بنفي الجبر و الإهمال و منح العباد القوة على أفعالهم و وكولهم فيها إلى نفوسهم فعلاً و تركاً بعد الوعد و الوعيد – ما نصه : ( إن الله سبحانه أمر عباده تخييراً و نهاهم تحذيراً و كلف يسيراً و لم يكلف عسيراً و أعطى على القليل كثيراً و لم يُعص مغلوباً و لم يطع مكروهاً و لم يرسل الأنبياء لعباً و لم ينزل الكتاب عبثاً, ولا خلق السموات و الأرض و ما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار )

و أي من كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد يتدبر هذا القول الحق و لا يشهد أن المخيّر غير المجبر و المحذر غير المهمل و أن العدل جار في الخلق فلا يكلفون عسيراً, و لم يكن بعث الرسل و إنزال الكتب إلا إصلاحاً لشؤون العباد و تنظيماً لأحوالهم, ( افحسبتم إنما خلقناكم عبثاً و إنكم إلينا لا ترجعون)(سورة المؤمن).

و من أوجز النصح و ابلغ الحجة في هذا الباب قول أمير المؤمنين عليه السلام, لمن يرى القضاء و القدر بمعنى الجبر فيخاطبه بحكمته البالغة و توجيهه السامي ليفيء به إلى طلال العقل و نعمة الهداية, ( لعلك ظننت قدراً لازماً, و قضاء حتماً, لو كان كذلك, لبطل الثواب و العقاب و سقط الوعد و الوعيد و الأمر و النهي, و لم تأت لائمة من الله لمذنب و لا محمدة لمحسن, و لم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء و لا المسيء أولى بالذم من المحسن )

و هذا القول غني عن البيان و التبيين لان الحق يحمل في نفسه دليل حقيقته, و لولا ما ورد عن أئمة العصمة أهل بيت الحكمة في حل مشكلة القضاء و القدر لظلت الأبصار و البصائر حاسرة حائرة أمام هذا الباب المغلق الموصد, أما و قد أناروا السبيل و أقاموا الدليل على مطابقة القضاء و القدير للعدل الإلهي الشامل فقد وضحت المحجة و قامت الحجة و ظهر الحق و حق اليقين بان لا جبر و لا إهمال, بل منزلة بين منزلتين. يوضح هذا ما جاء في كتاب ( مختصر بصائر الدرجات ) للشيخ ( حسن الحلي ) قال: بالإسناد عن غير واحد, عن أبي جعفر و أبي عبد الله عليهما السلام, قالا: إن الله عز و جل ارحم من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم بها, و الله اعز من أن يريد أمراً فلا يكون, قال: فسئلا عليهما السلام هل بين الجبر و التفويض منزلة ثالثة, قالا: نعم, أوسع مما بين السماء و الأرض.

و من تمقّل بعين بصيرته ما مر معنا في هذا المعنى, عن أمان هذه الأمة و باب حطتها تبنيه- و لا ريب- دليلاً قطعياً على صحة معتقد العلويين بشمول العدل الإلهي  كل كائن و مكوّن, و استبان- بمقتضى هذا العدل- تحمل العباد مسؤولية أعمالهم و إتيانهم إياها بمحض اختيارهم لا جبلا على الطاعة و لا جبراً على المعصية, و استشف من خلال ذلك معنى القضاء و القدر و هو إن البارئ سبحانه و قد أحاط سابق علمه في ما يكون من عباده و ما يحدث لهم من خير و شر و إيمان و كفر و طاعة و عصيان و إساءة و إحسان, فكتب و صور أعمالهم و أحوالهم في لوح القضاء, و لعلمه في ما يجري لهم و عليهم قدره لوقته, كالعلم في حدوث أمر ما على شخص ما في يوم كذا بسبب كذا,فكان ما علمه من أعمال خلقه و أحوالهم و رسمه في لوح القضاء و قدره في وقته الموقت له هو القضاء و القدر, لا على أن علم البارئ تعالى بأفعال عباده و أحوالهم قبل كونها, و رسمه إياها في لوح القضاء و تقديره إياها في الموقتة لها يكون  قضاء حتماً عليهم بفعلها, بل إثباتاً لقدرته تعالى على كل كائن و مكون و إحاطته علماً بكليات الأشياء و جزئياتها. يؤيد هذا القول و يوضحه ما ورد في كتاب ( مختصر بصائر الدرجات ) للحلي, بالإسناد إلى الصدوق محمد بن علي بن الحسين عن أبيه قال: حدثنا محمد بن عبد الله عن القاسم بن محمد الأصفهاني عن سليمان بن داود المنقري عن سليمان بن عيينة عن الزهري, قال: قال رجل لعلي بن الحسين عليهما السلام, جعلني الله فداك, أبقدر يصيب الناس ما يصيبهم أم بعمل, فقال: إن القدر و العمل بمنزلة الروح          و الجسد فالروح بغير جسد لا تحس و الجسد بغير روح صورة لا حراك لها, فإذا اجتمعا قويا و صلحا, كذلك العمل و القدر, فلو لم يكن القدر واقعاً على العمل لم يعرف الخالق من المخلوق و كان القدر شيئاً لا يحس, و لو لم يكن العمل بموافقة القدر لم يمض و لم يتم.

و هذا القول يفيد و يكاد يقطع بأن القدر هو علم البارئ السابق للأشياء قبل وقوعها و تقديره إياها في أوقاتها الموقتة لها, و في ذلك تمييز بين الخلق و الخالق, و بموافقة العمل للقدر يمضي أمر الله تعالى و تنفذ مشيئته في عباده, و المشيئة قد تكون مشيئة حتم كمشيئة خلق البارئ سبحانه عباده و تكوينه إياهم على ما هم فيه و عليه, طولاً و قصراً و فصاحة و عجمة و بياضاً و سواداً, و غير ذلك من الصفات الجارية فهو واقع لا محالة, و قد تكون مشيئة علم و تخلية بين العباد و أفعالهم بعد أن يوضح لهم سبيلي الخير و الشر و يأمرهم و ينهاهم و يمنحهم القوة على الفعل و الترك, إثباتاً لعدله و إتماماً لفضله, كما يخلي بين العصاة و بين معاصيهم, فإن شاء أن يحول بينهم و بينها و يمنعهم منها كان ذلك فضلاً منه عليهم و منة, و إن لم يعصمهم منها فليس هو الذي أجبرهم عليها, ومن أصدق الأمثلة و أقطع الأدلة على صحة هذا القول ما فعل مع آدم و يوسف عليهما السلام, فقد نهى آدم عن الأكل من الشجرة و ما شاء أن يخلي بينه و بين الأكل منها , و كان أكله منها سبباً لخروجه و ذريته من الجنة إلى هذه الدار و على هذه الحال و الصفة, و لو شاء لعصمه كما عصم يوسف إذ أراه برهان ربه و صرف عنه السوء و الفحشاء, فهل كان سبحانه بتخليته بين آدم و بين الأكل من الشجرة هو الذي أجبره على الأكل منها, كلا و معاذ الله, إذ لو كان ذلك كذلك لتنافى عقابه بالهبوط من الجنة و العدل الإلهي, و لكان البارئ ظالماً له, حاشى الله و أستغفر الله, و لا يظلم ربك أحد, و تأبى عليه تعالى رحمته التي وسعت كل شيء أن يجبر عبده على ذنب ثم يعذبه به.

و في معنى ذلك ما ورد في ( آمالي ) السيد المرتضى و في كتاب ( تحف العقول ) مع قليل اختلاف في اللفظ , أن أبا حنيفة النعمان بن ثابت قال: حججت في أيام أبي عبد الله الصادق عليه السلام فلما أتيت المدينة دخلت داره فجلست في الدهليز أنتظر إذنه إذ خرج صبي يدرج فقلت يا غلام أين يحدث الغريب إذا كان عندكم و أراد ذلك, فنظر إلي و قال: توقّ شطوط الأنهار و مساقط الثمار و أفنية الدور و المساجد و قارعة الطريق و توار خلف جدار و شل ثوبك و لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها و ضع حيث شئت, فأعجبني ما سمعت من الصبي و نبل في عيني و عظم في قلبي, فقلت له: ما اسمك, فقال: أنا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب, فقلت له: يا غلام ممن المعصية, فقال عليه السلام : إن السيئات لا تخلو من إحدى ثلاث, إما أن تكون من الله- و ليست منه- فلا ينبغي للرب أن يعذب العبد على ما لا ير تكب         و أما أن تكون منه و من العبد- و ليس كذلك- فلا ينبغي للشريك القوي أن يظلم الشريك الضعيف, و أما أن تكون من العبد وحده- و هي منه- فإن عفا فبكرمه و جوده, و إن عاقب فبذنب العبد و جريرته, و عليه وقع الأمر و إليه توجه النهي و له حق الثواب أو العقاب و وجبت الجنة أو النار, قال أبو حنيفة: فانصرفت و لم ألق أبا عبد الله عليه السلام و استغنيت بما سمعت. هذه الرواية بالإضافة إلى ما فيها من الدلالة على فضل الإمام و الإشارة إلى إعلان حقه بالإمامة تفيد الفائدة التامة وجوب تنزيه البارئ تعالى و تقديس ذاته العلية عن كل صفة من صفات النقص و العجز و المحال, إن الله لا يأمر بالسوء و الفحشاء, إن الله لا يظلم مثقال ذرة و إن تك حسنة يضاعفها و يؤت من لدنه أجراً عظيماً, و تقضي بثبوت حمل العباد مسؤولية أعمالهم و مجازاتهم بها, إلا أن يرحم الله, يعذب من يشاء و يرحم من يشاء و إليه تقلبون.

و الأخبار في نفي الجبر و التفويض و إثبات العدل و المنزلة بين المنزلتين مستفيضة تضيق عن استقصائها المجلدات الضخمة فأنى لهذا الموجز استيعابها, و من شاء أن يهتدي بنور العقل إلى معرفة ما أثبته النقل في هذا الموضوع فليرجع إلى رسالة الإمام الهادي علي بن محمد الجواد عليهما السلام أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر و التفويض, و فيها ما ينفي الشك و يدفع الوهم و يوحي باليقين و يحمل على التصديق بأن لا جبر و لا تفويض و لكن منزلة بين منزلتين ألا و هي الامتحان و الاختبار بالاستطاعة التي ملكنا الله و تعبدنا بها على ما شهد به الكتاب و دان به الأئمة المعصومون الأبرار من آل بيت الرسول صلى الله عليه و عليهم أجمعين.

و لقد وضح الحق جلياً لمريديه في ثبوت صحة الاعتقاد بوكول أعمال العباد إليهم و حملهم أعباء مسؤوليتهم بقوله تعالى: (قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها و ما أنا عليكم بوكيل) و الآيات البينات الشاهدة بصحة هذا الاعتقاد كثيرة في كتاب الله تعالى ليس هذا موضع استقصائها.

و يعتقد المسلمون العلويون أن ما ينزل بالعباد من مصائب و يحيق بهم من مكاره هو نتيجة ما كسبوا و جزاء ما عملوا, لثبوت اعتبار العدل الإلهي أصلاً من أصول الدين عندهم,و لأنه تبارك اسمه لا يجوز عليه الخور على خلقه (ولا يظلم ربك أحداً ). و مما يؤكد صحة هذا الاعتقاد لديهم و يزيدهم تمسكاً به ما رواه الأصبغ بن نباتة قال سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول أحدثكم بحديث ينبغي لكل مسلم أن يعيه, ثم أقبل علينا, فقال عليه السلام, ما عاقب الله عبداً مؤمناً في هذه الدنيا إلا كان أجود و أمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة, و لا ستر الله على عبد مؤمن في هذه الدنيا و عفا عنه إلا كان أمجد و أجود و أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة, ثم قال عليه السلام, و قد يبتلي الله المؤمن بالبلية في بدنه أو ماله أو ولده أو أهله و تلا هذه الآية (ما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم و يعفو عن كثير )و ضم يده و هو يقول ثلاث مرات( و يعفو عن كثير ).

و قد أورد القاضي ناصر الدين البيضاوي رحمه الله في تفسير قوله تعالى : (ليس بأمانيّكم و لا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به )(سورة النساء) إنها لما نزلت قال أبو بكر (رضي ) فمن ينجو مع هذا يا رسول الله, فقال صلى الله عليه و آله و سلم, أما تحزن, أما تمرض, أما يصيبك اللأواء, قال بلى يا رسول الله, قال هو ذاك, و جاء في تفسير قوله تعالى ( ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك)(سورة النساء), إن ما أصابك من الصحة و السلامة و سعة الرزق و جميع نعم الدين و الدنيا فمن الله أي تفضلاً منه تعالى لأن كل ما يفعله العبد من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود, و ما أصابك من المحن و الشدائد و الآلام و المصائب فمن نفسك, أي بسبب ما تكسبه من الذنوب و المعاصي, و أورد البيضاوي في تفسيرها حديثاً عن أم المؤمنين عائشة مرفوعاً, ( ما من مسلم يصيبه وصب و لا نصب حتى الشوكة يشاكها و حتى انقطاع شسع نعله إلا بذنب و ما يعفو الله أكثر ) و ختم البيضاوي شرح هذه الآية بقوله: ( إن الحسنة إحسان و امتنان و السيئة مجازاة و انتقام. و الآيتان كما ترى لاحجة فيهما لنا و للمعتزلة).

و في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال: ( ما من شيء يصيب المؤمن في جسده إلا كفر الله به عنه من الذنوب ) و روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري ( رضه ) عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال : ( ما يصيبك المؤمن من نصب و لا وصب و لا هم و لا حزن ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه و روى الشيخان عن أبي مسعود ( رضه ) عن النبي (ص) أنه قال : ( ما من مسلم يصيبه أذىً إلا حات الله عنه خطاياه كما تحات أوراق الشجر ) و روى الترمذي عن أنس بن مالك عن النبي (ص) أنه قال: ( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا و إذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافى به يوم القيامة ) و عنه (ص) ( إذا أراد الله بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه نقمة ليذكره الاستغفار و إذا أراد بعبد شراً فأذنب ذنباً أتبعه نعمة لينسيه الاستغفار و يتمادى بها ).   

 

                        عادات العلويين

لم تكن العادة ديناً يلزم الأمة أو الشعب الانتظام في سلكه, و لا معتقداً عاماً يضطر المجتمع إلى اعتناقه و الأخذ به, و إنما هي تكرار فعل ما بصورة تنزع إليها النفوس جرياً على سنن يقلد بها التابع المتبوع, و هي تختلف زماناً و مدائن و أريافاً و أمماً و شعوباً, إذ أنها تستلهم من طبيعة إقليم أصحابها و مجريات أحوال زمانهم.

أما العادات عند المسامين العلويين فإنها لا تختلف بشيء عما عند إخوانهم العرب المسلمين من عادات, و ربما كانت فيهم أشد علوقاً و أبلغ أثراً, كإكرام الضيف, و سخاء اليد, و إباء النفس, و عفة اللسان, و صيانة العرض, و رعاية حقوق الجار, إلى ما هنالك من شجاعة و مروءة, و إقدام و غيرة, و شهامة و تضحية, و ما سوى ذلك من عادات في الأفراح و الأتراح يقومون بها مع التزام سنن الآداب و مراعاة حرمة التعاليم السماوية, و إنهم و أيم الحق لبرءاء من أية عادة تتنافى و مكارم الأخلاق.

و إن أعجب فعجب ما قرأت في العدد الثامن و الخمسين من مجلة الأجيال عام (1953) تحت عنوان (نحن و التاريخ) ترجمة الأستاذ (منير الشعار) عن مؤلف باللغة الأجنبية للمؤرخ المعاصر الدكتور (فيليب حتي) ( يقال أن عند العلويين عوائد سرية ليلاً لا يظهر عليها غيرهم) إلى كثير من الإرجاف و الإجحاف في عقائد العلويين و عاداتهم مما تأباه الأخلاق و الأذواق, و أعجبُ منه صدورُه عن جهبذ التاريخ في هذا العصر الحر و أَحد أَساطينه, الدكتور (فيليب حتي) و سماحه لقلمه أن يجري بمداد الأقوال المكذوبة و المقولات المغرضة, دون أن يكلف نفسه بعض عناء التمحيص و جهد الاستقصاء, و دون أن يشير إلى مصادر تلك الأباطيل و السفسطات, و الخليق بمن يؤرخ للأجيال أن لا يعتمد على ما يقال, لأن التاريخ بناء, أساسه الواقع و دعامته الحقيقة, ترفع قواعده العقول المتحررة و الضمائر الحية, لا خيالات و أوهام يبعثها الافتئات و يمليها الارتزاق, و قد نربأ بمؤرخنا المعاصر و هو من هو أن يكون حمله شيء من ذلك على هذا الإسفاف الصريح و التحامل المفضوح على العلويين.

و إذا كان عذر المؤرخين القدماء فيما افتروه على هذه الفئة العربية المسلمة من القول الزور و البهتان العظيم, إرضاء أصحاب الطيالس و الصوالج الذين كان الطعن و التجريح مرضاة نفوسهم المريضة و دواءها, و أداة الحظوة و القبول لديهم, فما عذر مؤرخنا الكبير  و قد تبدلت الأرض غير الأرض و تغير وجه الزمان, و أسدل الستار على الشعوبيين و أحكامهم الجائرة, و انبعث في الأمة العربية حكام من صميمها, رسل سلام و رحمة للناس, و دعاة وحدة و إخاء في العرب, و ما مبرره في ما نقل للأجيال عن العلويين دون تمييز بين القول و التقول, و هو المفروض به الترفع عن التقليد الأعمى و التحرر من قيود العصبية البغيضة.

و واعجباً و أكثر يعمل علماء هذا العصر دائبين لتخطي متون الأفلاك و اختراق طبقات الأرض و تذليل عقبات الهواء و الماء, حرصاً على أمانة اختصاصهم العلمي, و إكتشافاً لما في مستودعات هذا الكون من أسرار, و يتجشم المؤرخون و الباحثون عناء قطع آلاف الأميال و جهد مشاق الترحال سعياً وراء الحقيقة ضالة التاريخ المنشودة, و لا يكلف مؤرخنا الأمين نفسه المتحررة عناء قطع عشرات الأميال في إحدى رحلاته إلى سوريا أو لبنان, تعرَّفا على العلويين, و ليعرف منهم عن عقائدهم و عوائدهم ما لا يمكنه معرفته من غيرهم, و رعياً لحرمة التاريخ و فقد حمل أمانته.

و هو و لا شك لو أراد أن يعلم لما جهل أن هذه الفئة العربية المسلمة ليست مجهلا من مجاهل التاريخ و لا أسطورة من أساطير الخيال ليجعل المؤرخون من عقائدها و عاداتها أحاديث سمار و أَقاصيص رواة, بل هي حقيقة ثابتة في الوجود, و أداة فعلة في حقل دنيا العرب و المسلمين.

و لو تبصر لبصر أن ما كتبه عن العلويين في مقاله ذاك بعيد عن الصدق بُعد الباطل عن الحق, و لكنه نزل بهم عند حكم مشيئته و وقف منهم حيث وقف سلفه في أودية التيه و المغالطات و في دياجي الخيال و الظنون عشواً عن أنوار الحقيقة المشرقة عليهم فتهدي إلى عقائدهم و عوائدهم كل بصير يفتأ يجعل عليه من ضميره رقيباً و من وجدانه حسيباً.

و ما كنت  لأولي هاتيك الترهات و الأباطيل أَية التفاته و قد تولاها الواقع الراهن بالدحض و التكذيب, و شهد الحق المبين بصراحة بطلانها, لولا أن الغاية من وضع هذا الكتاب هي إظهار الحقيقة و الانتصار للحق, و قصد إطلاع الرأي العام على ما دونه المغرضون من أراجيف مختلفة, فتشهد الإنسانية الصحيحة تنكر إدعيائها من المؤرخين لمبادئها المثلى, و مدى تجنيبهم و تحاملهم على العلويين فيعلم من لا يعلم, إذا كان هذا حالهم مع كتّاب و مؤرخي هذا العصر الذي تألقت فيه أنوار الحرية و استشعر عالمه المناداة بالعدالة الاجتماعية, فما الظن بهم في عصور كان يتجاذب طرفيها الظلم و الظلام. و أحرٍ بهذا الكتاب و قد حمل أمانة التاريخ أن يكون رعاها حق رعايتها, فتدبر ما نقله للأجيال القادمة بحكمة الخبير المنصف جاهداً لإرضاء الحق و العدالة الإنسانية, بدلا من اندفاعه وراء النزوات و انصياعه لأحكام العواطف و الشهوات, و لا أدل على تحكم عاطفته بعقله و إسلاس قياده لهواه في كتابته عن العلويين من بلبلة رأيه و اضطراب قلمه, فهو تارة يرميهم بالوثنية و طوراً بالحلولية, وحيناً بالإباحية, و غير خفي على المبتدئ من طلبة العلم فكم بالأحرى العلماء فرق ما بين الوثنية و الحلولية, و هو لو تمقل روايته بعين درايته لتجلت له الحقيقة بأطهر أثوابها نافضة ما علق بها من غبار الزيف و التشويه, صارخة بصوتها المدوي في أذن كل من كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد, إن على العلويين حصانة خلقية تحول بينهم و بين ما يتنافى و شرعة السماء, حصانة اكتسبوها من صدق ولائهم لآل بيت نبيهم الطاهرين, و سيرهم على سنة أئمتهم العادلة, و حرصهم على أصالة أنسابهم العربية العريقة, و ذلك كاف للعدول بهم عن مخازي الأقوال و الأفعال.        

           ذكر بعض رجال الفكر القدماء في العلويين

لقد كان في العلويين رجال دوى ذكرهم في الآفاق و أقض مضاجع قيصر الروم خيال انتصاراتهم,رجال نعتز بماضيهم الفخم الحافل بالمفاخر القومية و المآثر الطيبة التي من شأنها رفع مستوى الأمم و الشعوب, و نعتد بمجتمعهم الزاهي الذي يضاهي أي مجتمع عالمي وعياً و رقياً و ازدهاراً, و إن إذ نذكر أولئك الأجداد البهاليل فقد نذكر بمقدمتهم الأمراء الحمدانيين الذين رسموا على صفحات التاريخ النقية صورة المجد الخالدة بأحرف من نور, و حسبهم جمعاً لصفات المجد ما وصفهم به الثعالبي في يتيمته حيث يقول: (كان بنو حمدان ملوكاً و أمراء, أوجههم للصباحة, و للفصاحة, و أيديهم للسماحة, و عقولهم للرجاحة.

و زاد عليه المجتهد الأكبر( السيد محسن الأمين) طيب الله ثراه فقال:   (و نفوسهم للطماحة, و قلوبهم للشجاعة, و أقوالهم للبراعة, و أوامرهم للإطاعة, و حماهم للمناعة, و صيتهم للإذاعة).

و فيهم يقول السري الفاء من قصيدة يمدح بها سيف الدولة:             آل حمدان غرة الكــــرم المحض               و صفو الصـــــريح منه اللبــاب

أشرق الشرق منهم و خلا الغرب              و لم يخـــل من ندي و ضـــــراب

ينجلي السلم عن بــــــدور رواض              فيه و الحرب عن أسود غضـاب   

 و فيهم يقول هارون الكناني من قصيدة:

يبرزون الوجوه تحت ظلال الموت                  و الموت فيهم يستظــــــل

كــــــــرماء إذا الظبي غشيتهــــــم                   منعتهم أحسابهم أن يولوا

و فيهم يقول جعفر بن محمد الموصلي:

بأبناء حمدان الذين كأنهم               مصابيح لاحت في ليال حــــوالك

لهم نعم لا أستقل بشكرهـا               و إن كنت قد سيرته في المسالك

                                   

 

 

 

 

و فيهم يقول أبو الطيب المتنبي في مدح الملك سيف الدولة :

و أنت أبو الهيجا ابن حمدان يا ابنه        تشابه مولود كريم و والــــــد

و حمدان حمدون و حمدون حـــارث       و حارث لقمان و لقمان راشد

و فيهم يقول شاعرهم المجلي في ميداني السيف و القلم, من لا يشق غباره و لا تدرك آثاره, الأمير (أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان)

 الذي كان يقول فيه الصاحب بن عباد, (بدئ الشعر بملك و ختم بملك ) يعني امرؤ القيس و أبا فراس, و ما أكثر ما يقول :

و نحن أناس يعلم الله أننا                 إذا جمح الدهر الغشوم شكائمه

إذا ولد المولود منا فإنمــا                 الأسنة و البيض الرقاق تمائمه

و فيهم يقول أيضاً:

فلم يخلق بنو حمدان إلا                  لمجد أو لبأس أو لجود

و يقول فيهم أيضاً:

إذا كان منا واحد في عشيـــــــرة           علاها و إن ضاق الخناق حماها

و لا اشتورت إلا و أصبح شيخها           و لا اختبرت إلا و كان فتاهـــــــا

و لا ضربت بين القباب قبابـــــــه          و أصبح مأوى الطارقين ســـواها

و فيهم يقول أيضاً:

و نحن أناس لا توسط بيننا           لنا الصدر دون العالمين أو القبر

و قد قال المجتهد الأكبر (السيد محسن الأمين ) عطر الله رمسه, في كتابه ( أبو فراس الحمداني )في تعريف عشيرته ما نصه:

( نشأ أبو فراس في عشيرة عربية صميمة تقلب أفرادها بالملك و الإمارة قروناً عديدة, و كانت لهم أحسن سيرة مملوءة بمحاسن الأفعال و جميل الصفات, من كرم و سخاء, و عز و إباء, و صولة شجاعة, و فصاحة و براعة, و حلم و صفح, و تدبير و غيرة, و حماية للجار و حفظ للذمار, و رأي رصين و عقل رزين, إلى غير ذلك, و كلهم أو جلهم شعراء مجيدون أهل شجاعة و إقدام, تعودوا ممارسة الحروب و قيادة الجيوش, و يندر أو ليس بموجود أن يكون فيهم من ليس بشاعر و لا شجاع فارس) انتهى.                                

                           

                        علوية الحمدانيين

و لتوثق عرى اتصالنا فيهم و إتماما للفائدة تلزمنا الإشارة إلى آرائهم الدينية, فمما لا جدل فيه و لا ريب أنهم كانوا يدينون بالولاء للإمام علي و أبنائه الأئمة الطاهرين عليهم السلام, و يصدقونهم التشيع لهم و الدفاع عن حقهم, و لا غرو أن توجد فيهم تلك الروح المؤمنة بحق آل البيت القوية بإيمانهم, لأن من الوقوف على تطورات عصرهم و درس أحوال البيئة التي نشأوا فيها و بمعرفة المؤامرات المفضوحة و المكايد المكشوفة التي كان يكيدها العباسيون لأبناء علي (ع) تدرك العوامل التي أثرت في نفوسهم, بالإضافة إلى ما فيها من صدق الولاء و الإخلاص لآل البيت, فحملتهم على صدق العزيمة في الدفاع عن حقهم السليب و الانتصار لهم في مواقفهم, و ها هي تلك الروح الجبارة تتجلى في نفس شاعرهم الأمير ( أبي فراس ) لدى وقوفه على قصيدة (محمد بن سكرة العباسي ) التي يفتخر بها على الطالبيين, و ينتقص بها ولد علي و يتحامل فيها عليهم و التي أولها :

بني علي دعوا مقالتكم            لا ينقص الدر وضع من وضعه

فيفوق الأمير ( أبو فراس ) عزمه الوثاب سهاماً حادة على أقواس شعره, و يطوحها مدوية في الآفاق يصيب بها مقاتل  خصومهم, مدلاً بشهامته العربية و ولائه المحض و حبه الخالص لأبناء علي (ع) و من يود معرفة انتصاره لقضايا أئمته العادلة و مدى دفاعه عن حقوقهم المغتصبة, فليرجع إلى ميميته الشافية التي مسير الأمثال, و مطلعها:

الدين محترم و الحق مهتضم           و فيء آل رسول الله مقتسم

ولينظر المتأمل بعين بصره و بصيرته إلى صدق ولائه لأئمته البادي صراحة بقوله:

لا يطغيـن بنـي العبــــاس ملكهــــم             بنو علي مواليهم و إن رغمــوا

أتفخـــــــرن عليهـــم لا أباً لكـــــــم            حتى كأن رســول الله جدكــــــــم

و ما توازن يـــــــوماً بينكم شـــرف            و لا تساوت بكــم في موطن قدم

و لا لجـــــدكم مسعــــــاة جدهـــــــم            و لا نثيلتكـــم من أمهم أمـــــــــم

ليس الرشيد كموسى في القياس ولا           مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم

و إني لأهيب بالقارئ الكريم للاستماع إلى سهامه المرنة في أذن الأجيال منطلقة إلى مقاتل العباسين, بعد أن تخطى بجرأته النادرة صدر الكثير من الحوادث التاريخية المنكرة التي جاؤوها فيقول لهم تأنيباً و توبيخاً, مندداً بسوء أعمالهم و قبح أفعالهم:

ما نال منهم بنو حرب و إن عظم          تلك الجرائم إلا دون نيلكــــــــــــــم

كم غدرةٍ لكم في الدين واضحــــة          و كم دم لرسول الله عندكــــــــــــم

أأنتم آله فيما ترون, و فـــــــــــي          أظفاركم من بنيه الطاهريـــــــن دم

هيهات لا قربت قربى و لا رحــــم          يوماً إذا أقصت الأخلاق و الشيــــم    

كانت مودة سلمان لهم رحمــــــــاً           و لم يكن بين الروح و ابنه رحـــم

يا جاهداً في مساويهم يكتّمهـــــــا           غدر الرشيد بيحيى كيف ينكتـــــــم

ذاق الزبيري غب الحنث وانكشفت          عن ابن فاطمة الأقوال و التهــــــم

باؤوا بقتل الرضا من بعد بيعتـــــه           وأبصروا بعض يوم رشدهم فعموا      

يا عصبة شقيت من بعد مـا سعدت           و معشراً هلكوا من بعد ما سلمــوا

لبئسما منهم و إن بلـيــــــــــــــــت            بجانب ألطف تلك الأعظم الرمـــــم

و ذكر شيء من غدر العباسين نسمعه يبعثها صوتاً مجلجلاً يصم بها آذانهم فيقول:

أبلغ لديك بني العباس مألكـــة           لا يدعوا ملكها, ملاكها العجـــم

أي الفاخر أضحت في منابركم           و غيركم آمر فيهن محتكــــــــم

و هل يزيدكم من مفخر علــــم           و بالخلاف عليكم يخفق العلــــم

خلوا الفخار لعلاّمين إن سئلوا           عند السؤال و عمَّالين إن علموا

لا يغضبون لغير الله ‘ن غضبوا         و لا يضيعون حكم الله إن حكموا

تبدو التلاوة من أبياتهم أبـــــــداً         و من بيوتكم الأوتار و النغـــــم       

ثم بعد الإتيان على ذكر بعض مساوئ العباسين يختم قصيدته بقوله:

الركن و البيت و الأستار منزلهم       و زمزم و الصفا و الحجر و الحرم

و ليس من قسم في- الذكر نعرفه       إلا و هم غير شك ذلك القســـــــــم

صلى الإله عليهم كلما سجعـــــت        ورق فهم للورى ذخر و معتصـــم

بهذا الحماس المتدفق و الإخلاص الأكيد و العاطفة الصادقة يثبت شاعرنا ولاءه لآل البيت, و ينتصر لحقهم المهضوم و يرمي خصومهم بقاصمة الظهور.

و ها نحن نسمعه في غير موقفه هذا يستشفع بالنبي الكريم و آله الطاهرين و يرى أن لا نجاة إلا بهم, فيقول:

لست أرجو النجاة من كل مـــــــا         أخشاه إلا بأحمد و علــــي

و ببنت الرسول فاطمة الطهــــــ          ــر وسبطيه و الإمام علـي

و ألتقي النقي باقر علم اللـــــــــ           ــه فينا محمد بن علــــــي

و ابنه جعفر و موسى و مـــــولا          نا علي أكرم به من علـــي

و أبي جعفر سمي رسول اللــــــ           ـــه ثم ابنه الزكي علــــــي

و ابنه العسكري و القائم المظهـ          ـــــر حقي محمد و علــــــي

بهم أرتجي بلوغ الأمانــــــــــــي         يوم عرضي على الإله العلي

أو يقول:

        شافعي أحمد النبي و مولاي علي و البنت و السبطان

        و علي و باقر العلم و الصادق ثم الأمين ذو التبيـــــان 

        و علي و الخيران علي و أبوه و العسكري الدانـــــــي

        و الإمام المهدي في يوم لا ينفع إلا غفران ذي الغفران

ثم لا نلبث أن نراه و قد مرت به ذكرياته الخاطفة فأسمعته بلسان الوحي إعلان الدعوة لولاية أمير المؤمنين(ع)و مثلت له تلك الفضائل صوراً حية, و عادت به الذكرى فأوقفته على مصرع الإمام الحسين(ع)و أشهدته قبح ما جنته تلك الأيدي الأثيمة, فنسمعه يقول في رثاء الإمام الحسين و الثناء على أمير المؤمنين عليهما السلام من قصيدته التي مطلعها:

يوم بسفح الدير لا أنساه        أرعى له دهري الذي أولاه

يقول في الرثاء:

و احتز رأساً طالما من حجــره                    أدنته كفا جده ويـــــــــداه

يوم بعين الله كان و إنمـــــــــــا                   يملي لظلم الظالمين اللّـــه

يوم عليه تغيرت شمس الضحى                 و بكت دماً مما رأته سمـاه

لا عذر فيه لمهجة لم تنفطــــــر                   أو ذي بكاء لم تفض عينـاه

تباً لقوم تابعوا أهوائهـــــــــــــــم                  في ما يسوؤهم غداً عقبــاه

أتراهم لم يسمعوا ما خصــــــــــه                 منه النبي من المقال أبـــــاه

إذ قال يوم غدير خم معلنــــــــــــًا                 من كنت مولاه فذا مــــــولاه

لو لم ينزل فيه( الأهل أتـــــــــــى)                من دون كل منزل لكفـــــــاه

من كان أول من حوى القرآن مــن                لفظ النبي و نطقه و تــــــلاه

من كان صاحب فتح خيبر من رمى               بالكف منه بابه و دحــــــــاه

من عاضد المختار من دون الورى               من آزر المختار من آخــــــاه

من خصه جبريل من دون الـــورى               بتحية من ربه و حيــــــــــــاه

أظننتـــــــــــــم إن تقتلــــــوا أولاده               و يظلكم يوم المعاد لـــــــــواه

أو تشربوا من حوضه بيمينـــــــــه               كأساً و قد شرب الحسين دماه

أنسيتم يــــــوم الكساء و إنــــــــــه               ممن حواه مع النبي كســـــــاه

يــــــا رب إني مهتـــد  بهداهـــــــم               لا أهتدي يــــوم الــهدى بسواه

أهوى الذي يــــهوى النبي و آلــــه               أبــــــداً واشنا كل مـن يشـــنـاه

  

تعال معي أيها القارئ الكريم بعد أن استمعنا إلى تدفق هذه العاطفة السائلة بالتفجع المرير على الإمام الحسين (ع) و التوعد الأمر على قتله, و نظرنا إلى ذلك الشعور الفياض بحب أمير المؤمنين (ع) و الإشادة بفضله و الإشادة إلى إعلان حقه يتجلى بمن و من و من إلخ.

تعال نشهد على ولائه الصادق و حبه الخالص و إيمانه المحض بولايتهم المشرقة على روحه فنطق بها لسانه:

يا رب إني مهتد بهداهـــــــــم        لا أهتدي يوم الهدى بسواه

أهوى الذي يهوى النبي و آله         أبداً واشناً كل من يشنـــاه

و لا أدل على علوية الحمدانيين من هذين البيتين الرائعين اللذين هما بمثابة لوحة فنية يرسم فيها الملك سيف الدولة قيمة حب الإمام علي(ع) و يصور هذا الحب و غايته و معناه حيث يقول:

حب علي بن أبي طالــــب          للناس مقياس و معيــار

يخرج ما في أصلهم مثلما          يخرج غش الذهب النار

و مما يزيد الأمر وضوحاً بإثبات علوية الحمدانيين, هو أن دولتهم كانت مأوى علماء الشيعة و فقهائها, يؤيد هذا ما أورده الكاتب المصري الكبير الأستاذ (عباس محمود العقاد) في رواية (اقرأ) الشيخ الرئيس(ابن سينا) حيث يقول: ( و من الملاحظات التي لا تفوت المؤرخ في هذا الصدد أن كبار الفلاسفة المشرقيين كانوا جميعاً من أنصار الشيعة, و هم الكندي, و الفارابي, و ابن سينا).

و أقام الدليل على تشييع كل منهم إلى أن قال عن الفارابي: ( أما الفارابي فقد جمع بين التشيع و التصوف و أوى إلى دولة بني حمدان المتعصبة لآل البيت).

و غير خفي ما في كلمة (المتعصبة) من الإفراط في تصوير انتصار الحمدانيين لحق آل البيت و الإسراف في التعبير عن صادق الحب و الولاء.

و لا جدل فإن بلاط الملك سيف الدولة كان عامراً بالمشاهير من الفلاسفة و العلماء و الفقهاء, كالفارابي هذا الذي كان مطربه و فيلسوف بلاطه, و قد أغنانا سيادة الأستاذ العقاد عن الإفاضة بذكره لقوله بتشيعه و إيوائه إلى دولة بني حمدان (المتعصبة) لآل البيت, و كأبي عبد الله الحسين بن محمد بن أحمد بن خالويه النحوي مرّبي أبماء الحمدانيين, و أبي الفرج الأصفهاني,صاحب الأغاني, و غيرهم من العلماء الذين يضيق بنا المقام عن ذكرهم.      

و كان بابه مزدحم فحول الشعراء و له معهم الأخبار الكثيرة كالسلامي, و السري الرفاء, و الكناني, و ابن نباتة, و النامي, و الزاهي, و غيرهم, و على رأس أولئك جميعاً شاعراه, ابن عمه الأمير (أبو فراس الحمداني), (و أبو الطيب المتنبي) اللذان صحباه في الكثير من غزواته, و نظما فيها من جيد الشعر ما خلدهم جميعاً و جعلهم ملء سمع الزمان و بصره.

و حسبنا هذا القدر من ذكر الحمدانيين الذين لا تتسع هذه الصفحات لاستقصاء مفاخرهم و مآثرهم, و هم أعرف من أن يعرفوا,ليتسنى لنا الإتيان على ذكر غيرهم من رجال الفكر في العلويين و لو إيجازاً أو إيماء.                                                                                                      

 

 

 

 

         القول في بعض علماء العلويين القدماء و فقهائهم

كان من جلة علماء العلويين و فقهائهم القدماء السادة:

( أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني, صاحب كتاب( تحف العقول عن آل الرسول) المطبوع في طهران الغني بحججه العقلية البالغة و أحاديثه الثابتة الصحيحة, و قد طبع مجدداً طبعة أنيقة, و من شاءه فليطلبه من مظانه.

( و أبو محمد يزيد بن شعبة)كان عالماً محباً للخير فاعله, جواب آفاق حج البيت الحرام, فاجتمع بالأمير( أبي الفتح عبد الكريم الكرماني) صاحب جزيرة كرمان, فسأله صحبته إلى جزيرته ففعل, ثم انتقل منها إلى جبال اليمن متجولاً فيها, ناشراً تعاليم الشريعة السمحة في تلك الأنحاء ثم قفل راجعاً إلى بلاده فتوفي في حماه.

( و أبو الطيب أحمد بن الحسين المعروف بالمنشد) و قد عرف بذلك لكثرة إنشاده في معاجز رسول الله و أهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم, و كان حسن الصورة و الصوت, عالماً فقيهاً داعياً إلى الإسلام و قد أسلم على يده كثير من اليهود و النصارى, و حفظ بعضهم القرآن الكريم فحج به البيت الحرام و كان مسكنه الجزيم و توفي عن ستين سنة و دفن في مشهد الإمام (الجواد)ع.

( و أبو حمزة الكتاني) كان حافظاً القرآن الكريم عالماً باللغة و النحو, فقيهاً بالأديان قوي الحجة في مجادلة الملل, و كان إلى جانب ذلك شجاعاً لا تلين له قناة, حج بيت الله الحرام غير مرة, و توفي في حمص).

( و أبو الحسن علي بن بطة الحلبي) كان من حفظة القرآن الكريم, و من جهابذة علم اللغة و النحو, حج البيت الحرام و صادف أن سافر ذات مرة إلى الإسكندرية فأسره القراصنة الإفرنج و باعوه في عكة, فما زال بالشخص الذي اشتراه حتى أسم و علمه القرآن الكريم و حج به).

( و حيدر بن محمد القطيعي) كان من مشائخ الحديث, و قد أسلم على يده جماعة من نصارى بغداد و توفي في الكرخ عن ستين سنة, و دفن عند الإمام( أحمد بن حنبل).

( و عبد الرحمن الجرجري) كان قارئاً,قرأ القرآن الكريم برواية ورش, و عاصم, و نافع, و أسلم على يده تسعة من اليهود فحج بهم بيت الله الحرام.

و كان من علماء الإعلام( أبو ذر سهل بن محمد الكاتب)أستاذ الملك سيف الدولة, و قد كان إلى جانب علمه و وفرة فضله أديباً بارعاً و شاعراً مجيداً, و من شعره, و هو مما أجازه المتنبي بأمر الملك سيف الدولة, قوله:

     نفس الفداء لمن عصيت عواذ لي             في حبه لم أخشَ من رقبائه

     الشمس تطلع من أسرة وجهــــــه          و البدر يطلع من خلال قبائه

و من جهابذة علماء العلويين و كبار أئمة الفقه و الحديث في المسلمين ( أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله النيسابوري) إمام الحفَاظ و المحدثين و صاحب التصانيف التي لعلها تبلغ ألف جزء, جاب البلاد في رحلته العلمية, فسمع من نحو ألفي شيخ, و كان أعلام عصره كالصعلوكي, و الإمام ابن فورك, و سائر الأئمة يقدمونه على أنفسهم و يراعون حق فضله و يعرفون له الحرمة الأكيدة, و لا يرتابون في إمامته, و كل من تأخر عنه من محدثي السنة عيال عليه, و هو من أبطال الشيعة و سدنة الشريعة, تعرف ذلك كله بمراجعة ترجمته في كتاب ( تذكرة الحفاظ) للذهبي, و قد ترجمه في الميزان أيضاً, فقال (إمام صدوق) و نصّ على أنه شيعي مشهور, و نقل عن ابن طاهر قال:( سألت أبا اسماعيل عبد الله الأنصاري, عن الحاكم أبي عبد الله فقال:إمام في الحديث رافضي خبيث) و ذكره أبو الفداء في تاريخه فقال:( كان من أهل الدين و الأمانة و الصيانة و الضبط  و التجرد و الورع لكن قال ابن الخطيب البغدادي, كان الحاكم يميل إلى التشيع و قال أبو عبد الرحمن السلمي دخلت على الحاكم و هو مختف من الكرامية لا يستطيع أن يخرج منهم فقلت له: لو أخرجت حديثاً في فضائل معاوية لاسترحت مما أنت فيه, فقال: لا يجيء من قبلي لا يجيء من قبلي).

 و من كبار العلماء و الأدباء لا في العلويين فحسب بل في العلم العربي قاطبة( الوزير أبو القاسم اسماعيل بن عباد بن العباس الطالقاني) المعروف بالصاحب, المشهور بكافي الكفاة, قال أبو بكر الخوارزمي نشأ الصاحب بن من الوزارة في حجرها و دب و درج من وكرها, و وضع أفاويق درها, و ورثها عن آبائه, كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه:

       ورث الوزارة كابراً عن كابر              موصولة الإسناد بالإسناد

       يروي عن العباس عبــاد وزا             رته و اسماعيل عن عبـاد

و قال الثعالبي في يتيمته في ترجمة الصاحب ( ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم و الأدب, و جلالة شأنه في الجود و الكرم, و تفرّده بالغايات في المحاسن و جمعه أشتات المفاخر لأن همة قولي تنخفض عن بلوغ أدنى فضائله و معاليه, و جهد وصفي يقصر عن أيسر فواضله و مساعيه).

و قال ابن خلكان, في ترجمته, هو أول من تسمى من الوزراء بالصاحب, و ذكر أن له مؤلفات جليلة, منها, كتاب المحيط, في اللغة, في سبعة مجلدات رتبه على حروف المعجم, و كان ذا مكتبة لا نظير لها, كتب إليه, نوح  بن منصور, أحد ملوك بني سامان يستدعيه ليفوض إليه وزارته و تدبير أمر مملكته فاعتذر إليه, بأنه يحتاج لنقل كتبه خاصة إلى أربع مائة جمل فما الظن بغيرها.

و مما أورد الديلمي من شعر الصاحب في أمير المؤمنيين(ع) و قيل للإمام الشافعي:

قيل لي في علي المرتضــى             مدحاً تطفئ ناراً موقـــده

قلت هل أمدح من في فضله            حار ذو اللب إلى أن عبده

و النبي المصطفى قال لــــنا             ليلة المعراج لما صعـــده

وضع الله على ظهري يـــــداً             فأراني القلب أن قد برده

و علي واضـــــع أقدامـــــــه              في مكان وضع الله يــده

و من علماء العلويين, القاضي ( أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخطيب الخصيبي) قاضي الأمير أبي العشائر الحمداني على إنطاكية, و هو الذي يقول في مدحه المتنبي:     

           ألقى الكرام الأولى بادوا مكارمهم  

                                       على الخصيبي عند الفرض و السنن

إلى قوله:

         الفاضل الحكم عيّ الأولون بـــــــه

                                       و المظهر الحق للساهي على الذهن

            أفعاله نسب لو لم يقــــل معهــــــا

                                        جدّى الخصيب عرفنا العرق بالغصن

            العارض الهتن ابن العارض الهتن

                                        ابن العارض الهتن ابن العارض الهتن

من أدباء العلويين ( أبو الفتح عثمان بن جني النحوي) و يعرف عندنا (بابن يحيى النحوي) ذكره صاحب اليتيمة فقال: ( هو القطب في لسان العرب و إليه انتهت الرئاسة في الأدب, صحب أبا الطيب دهراً طويلاً و شرح شعره و نبه على معانيه و إعرابه, و كان الشعر أقل خلاله لعظم قدره و ارتفاع حاله).

و من أدباء العلويين ( أبو محمد عبد الله بن عمرو بن محمد الفياض) ذكره الثعالبي في يتيمته فقال : (كاتب سيف الدولة و نديمه, معروف ببعد المدى في مضمار الأدب و حلبة الكتابة أخذ بطرفي النظم و النثر, و كان الملك سيف الدولة لا يؤثر عليه في السفارة إلى الحضرة أحداً لحسن عبارته و قوة بيانه, ذكره الصابي في الكتاب (التاجى ) و مدحه السري بقصائد).

و من أدباء العلويين ( السري بن أحمد الكندي, المعروف بالسري الرفاء ) الذي يقول فيه الثعالبي في اليتيمة,( ما أدراك من السري صاحب سر الشعر الجامع بين نظم عقود الدر و النفث في عُقد السحر, ولله دره ما أعذب بحره و أصفى قطره و أعجب أمره, و قد أخرجت من شعره ما يكتب على جبهة الدهر و يعلق في كعبة الفكر, و ما أراني أروي أحسن و لا أشرف و لا أعذب و لا ألطف من قوله:

قسمت قلبي بين الهم و الكمـــــــد             و مقلتي بين فيض الدمع و السهـــدِ

و رحت في الحسن أشكالاً مقسمة             بين الهلال و بين الغصن و العقــــــد

أريتني مطراً ينــــــهلّ ساكبــــــــه             من الجفون و برقا لاح من بـــــــــرد

و وجنة لا يروي ماؤها ظمـــــــأي             بخلا و قد لذعت نيرانها كـــــــــبدي

فكيف أبقى على ماء الشؤون و مـا             أبقى الغرام على صبري و لا جلدي 

و من شعره قوله من قصيدة في رثاء الإمام الحسين عليه السلام:

إذا تفكــــــرت في مصابهــــــــــــم            أتعب زند الهموم قادحـــه

بعضهـــــــم قربت مصارعــــــــــه            و بعضهم بعدت مطارحـه

أظلـــم في كربلاء يومهـــــــــــــــم            ثم تجلى و هم ذبائحــــــه

لا برح الغــيث كـــــــل شارقــــــــة            تهمي غواديه أو روائحه

على ثرى حله ابن بنت رسول اللـ             ـه مجروحة جوارحـــــــه

ذل حمـــــــاه و قــــل ناصـــــــــره             و نال أقصى مناه كاشحه

عفرتم بالثرى جبيـــــــن فتــــــــى             جبريل بعد النبي ماسحـه

يطل ما بينكم دم ابن رسول اللــــــ             ـه و ابن السفاح سافحـه

سيان عند الأنـــــــــــام كلهـــــــــم             خاذله منكم و ذابحـــــــه 

و من أدباء العلويين ( أبو بكر محمد بن أحمد بن حمدان, المعروف بالخباز البلدي) ذكره الثعالبي في يتيمته فقال: ( هو من بلدة يقال لها بلد من بلاد الجزيرة التي فيها الموصل, و أبو بكر من حسناتها, و من عجيب شأنه أنه كان أمياً, و شعره كله ملح و تحف و غرر و ظرف و لا تخلو مقطوعة له من معنى حسن أو مثل سائر, و كان حافظاً للقرآن الكريم مقتبساً منه في شعره) كقوله:

ألا إن إخواني الذين عهدتهم            أفاعي رمال لا تقصر في لسعي

ظننت بهم خيراً فلما بلوتهــم            نزلت بواد منهـــم غير ذي زرع

و كان يتمثل في شعره بما يدل على مذهبه كقوله:

انظر إلي بعين الصفح عن زللي               لا تتركني من ذنبي على وجـــــــل

موتي و هجرك مقرونان في قرن               فكيف أهجر من في هجره أجلــي

و ليس لي أمل إلا وصالكـــــــــــم               فكيف أهجر من في وصله أملــي

هذا فؤادي لم يملكه غيركــــــــــم               إلا (الوصي أمير المؤمنيين علي)

 

كقوله :     و حمائــــم نبهتنـي            و الليل داجي المشرقين

                   شبهتهن و قد بكين            و ما ذرفن دموع عيــن

                   بنساء آل محمــــــد             لما بكين على الحسيـن

و من ملح قوله:

        إذا استثقلت أو أبغضت خلقا

                                      و شرك بعده حتى التنادي

          فشرده بقرض دريهـــــــمات

                                       فإن القرض داعية البعـــاد

             

 

 

                   القول في بعض أمراء العلويين القدماء

كان من سراة العلويين و عظمائهم الأمراء التنوخيون في اللاذقية, و ينتهي نسبهم إلى بني (فهم) حي من قضاعة القبيلة العربية المشهورة, و فيهم يقول أبو الطيب المتنبي في مدح ( علي بن ابراهيم التنوخي ) من قصيدة:

قوم بلوغ الغلام عندهــــــــــم              طعن نحور الكماة لا الحلـــــم

كأنما يولد الندى معهــــــــــــم              لأصغر عاذر و لا هــــــــــرم

إذا تولوا عداوة كشفــــــــــــوا              و إن تولوا صنيعة كتمــــــوا

تظن من فقدك اعتدادهــــــــــم               إنهم أنعموا و ما علمـــــــــوا

إن برقوا فالحتوف حاضــــــرة               أو نطقوا فالصواب و الحكــم

أو حلفوا بالاغموس و اجتهدوا               فقولهم خاب سائلي القســــم

أو ركبوا الخيل غير مسرجـــــة               فإن أفخاذهم لها حــــــــــــزم

أو شهدوا الحرب لاقحاً أخــــذوا              من مهج الدارعين ما احتكموا

تشرق أعراضهم و أوجههـــــــم              كأنها في نفوسهم شــــــــــــيم  

و كان من العظماء في سراة العلويين,( الأمير أبو الحسن رائق بن خضر الغساني) أمير الجنوب من طرابلس إلى طبريا, ثم ابنه (الأمير أبو بكر محمد بن رائق) و كان يدعى أمير الأمراء.

و كان من أمراء العلويين الشجعان و فرسانهم البواسل, ( الأمير أبو الحسين بدر بن عمار بن اسماعيل الأسدي الطبرستاني) عامل الأمير (محمد بن رائق) على صور, و صيدا, و مرج عيون, و فيه يقول أبو الطيب المتنبي من قصيدته التي يروي لنا فيها قصته مع الأسد, و ذلك أن (بدراً) هاج يوماً عن أسداً عن فريسته فوثب إلى كفل فرسه فأعجله عن استلال سيفه فضربه بالسوط فصرعه, فقال ذلك أبو الطيب من قصيدة:

حدق يذم من القواتل غيرهـــا                  بدر بن عمــــار بن اســـماعيلا

الفارج الكرب العظام بمثلــهــا                  و التارك الملك العـــزيز ذليــلا

محك إذا مطل الغريم بدينــــــه                  جعــــل الحسام بمـــا أراد كفيلا

نطق إذا حط الكلام لثامـــــــــه                   أعطى  بمنطقة القلــوب عقولا

أعدى الزمان سخاؤه فسخا به                   و لقد يكــــون به الزمان بخيلا

و كأن برقافي متون غمامـــــة                   هندية في كفــــــه مسلـــــــولا    

و محل قائمه يسيل مواهـــــــباً                    لو كن سيلا ما وجدن مســيلا

رقت مضاربه فهن كأنمــــــــــا                    يبدين من عشق الرقاب نحولا

أمعفر الليث الهزبر بسوطــــــه                    لمن ادخرت الصارم المصقولا

هذه لمحة خاطفة عن بعض علماء و أدباء و أمراء العلويين الذين طوقوا جيد التاريخ بقلائد آثارهم, و ازدانت خزائن العلم و الأدب بلآلئ علومهم و أشعارهم, و أنّي لهذا الموجز استيعاب ما تضيق عنه المجلدات الضخمة على سعتها من مآثر و مفاخر علماء العلويين و أدبائهم و أمرائهم الذين كان لهم القدح المعلى و المقام الأسمى بين رجال الفكر القدماء, و لا غرو إن حاروا قصب السبق في ميداني العلم و الأدب, و فيهم, الأمير عصمت الدولة محمد بن الأمير معز الدولة, و الأمير أبو عبد الله محمد بن العباس, و الأمير  أبو عبد الله محمد بن جعفر بن محرز, و الأمير أبو عبد الله محمد بن عسكر, و الأمير أبو القاسم هبة الله الرهاوي بن حسين, و أبو الحسين محمد بن حامد السراج, و أبو محمد عبد الله الكتاني, و أبو محمد عبد الله بن قتادة الفراء, و أبو عبد الله محمد بن مدلك الرقي الوراق, و أبو الفتح محمد بن الحسن القاضي المعروف بالقطيعي, و أبو محمد المعروف بالمهلهلي البغدادي, و أبو الفرج الكاتب العجلي, و أبو الحسن علي بن أحمد التلعفري, و أبو الحسن العقيلي, و أبو عبد الله الحسين بن أحمد الحجاج الكاتب صاحب المجون, و ابراهيم بن عثمان بن المصطلق النعماني, و محمد بن اسماعيل الجزائري, و صفي الدين حيدر بن محور الفارقي المعروف بعبد المؤمن الصوفي.

و لولا خوف الإطالة لقدمت عدداً إضافياً من أولئك الأعلام الوضاءة في حوالك الأجيال الماضية و ما زالوا غرة في جبين الدهر, و موضع إعجاب الزمان و تقديره. 

 

 

    

       القول في بعض رجال الفكر المغمورين في العلويين

و إني إذ أتيت على ذكر بعض من حضرني أسماؤهم من رجال الفكر البارزين في العلويين, أرى لا مندوحة لي من الإشارة إلى بعض من لا يقل عنهم خطراً, ولا يصغر عنهم قدراً, و لا يقصر عن اللحاق بهم في ميدان النشاط الفكري لو أتاح له جو السياسة الشعوبية الخانق فرصة الظهور على مسرح الحياة الحرة آمناً مطمئناً, فكم من العلويين من علماء و فلاسفة و شعراء لهم في ذمة التاريخ حقوق واجبة, حيث أغفلهم و طمس على آثارهم إلا قليلا تمرد عليه فلم يستطع محوه, بل ظل حقيقة مكتنة في صدر الزمن مغشاة بنسيج وهمي من الخمول, سوف لا تلبث أن تنور تلك الحقيقة فتمزق ذلك الحجاب الواهي بيد التجدد و البروز, و تظهر إلى المجتمع العالمي صورة رائعة في العلم و الأدب و الإجتماع, و سنوضح في الفصل الثالث من هذا الكتاب بعض أسباب إغفال التاريخ ذكرهم و إغماض عينيه عن رؤية آثارهم الممتعة.

من أولئك العلماء ة الفلاسفة و الشعراء المغموط حقهم, الذين لو تبين الناقد آثارهم العلمية و الأدبية بعين الإنصاف و التجرد لاختار لهم أسمى منزلة في أجواء النبوغ و النباهة, و لعدَّهم في الرعيل الأول من رجال الفكر و الأدب.

                             

                              السادة:

 

حسن بن حمزة الصوفي, و أبو الحسن علي بن حمزة بن شعبةو و عماد الدين أبو الحسن أحمد بن جابر أبي العريض الغساني, و نصر بن معالي الخرقي, و الأمير حسن بن مكزون السنجاري, الجامع بين الإمارة و التصوف و العلم والأدب و الفلسفة, و محمد منتجبالدين العاني,و جلال الدين بن معمر الصوفي, و عبد الله الناسخ البغدادي, و الأمير أبو الحسن علي بن جعفر.

و كثير غيرهم من علماء العلويين و فلاسفتهم و شعرائهم الذين قلما يجود الزمان بمثلهم, و لكل منهم أثر يدل عليه, فلبعضهم مؤلفات مخطوطة بالفلسفة الروحية و العلوم الإلهية, غاية في الجودة و الإتقان, و مثلها مع منكري وجود واجب الوجود لذاته مثل عصا موسى تلقف ما يأفكون, و لبعضهم من الشعر العربي الرائع ما لو أشرقت دراريه في سماء الأدب لأخفت كثيراً من الأصداف التي كتب لها الحظ بالبريق و اللمعان. 

و إنّا لنتمنى عليه سبحانه و ما ذلك عليه بعزيز, أن يقيض لهذه الآثار الخالدة و الدرر الفريدة منثورة و منظومة, ممن تتوفر فيهم الأهلية من يكرّس وقته لجمعها و تنسيقها و ضبطها,إذ ربما أعوز بعضها الضبط و التهذيب لتوالي النسخ عليها و تفاوت أفهام ناسخيها, ثم يقدمها إلى الجمهور الكريم ليطلع عليها فيحكم بما يشاء و عليه التبعة بحكمه, و ليظفر بمطالعتها و يجتني من ثمارها من كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.

و إلى من التنزه في خمائل الآداب الممتعة ما تستوعبه هذه العجالة من الجمان النضيد و الدر النظيم, المصون في السهل الممتنع المغمور بماء الخلود النير.

من هذا اللؤلؤ الرطب ما نظمه الفيلسوف و الصوفي الشاعر الأمير  (حسن بن مكزون السنجاري)منحه الله رضاه, في مدح آل البيت الطاهرين و الإشارة إلى عدل القرآن الكريم, و إلى إثبات حق أمير المؤمنين عليه و على نبيه الطاهرين السلام بالولاية, إذ يقول و كثيراً ما يقول:

      قول الإله جـــل في كتابـــــــــه                على علي جاء نصاً قاطعــــا

       أنا الولي و رسولــــي و الذي                آتى الزكاة في الصلاة راكعــاً

       فخصه منه بوصف لم يكــــــن                بغيره في ما روود واقعـــــــا

        قوم بهم شفع الإله رسولــــــه               و كتابه بهم الرسول لقد شفع

        أيروم في الإسلام حظاً من عدا               أبوابهم و إلى معاديهم رجـــع

        لا و الهدى لم يهد من ناواهـــم               يوماً و لا ضل الذي لهم اتبـــع

و من شعره في الحكم و الزهد و الغزل قوله:

طليق دموع لا يـفـــــك لــه أســـر                في منه عن كربه في الوغى الفــــــــر

و كالميت حي دام في الذل راغبــاً                عن العز بالعيش الذي حلوه مـــــــــــر

و أي حياة ينعـــــــم البال طـــولها                و دون المنى للمرء في مدَّها قصــــــر

و شيب الفتى فيه انتهاء شبابــــــه                و ستر عوار الشائب الهرم القبــــــــر

فرح منفقا عصر الشبيبة في العلى                 و قل لكبير المجد عمر الفتى مهــــــر

فأول عمر المرء مضمار سبقـــــــه                و ما فيه للواني ظهيــــر و لا ظهـــــر

فجد فما في الجد للمجد يافــــــــــــع                و عن قصد بيض المجد لا تثنك السمر

و لا تحذر الأمر الذي هو صائــــــــر               إليك فمنه عنـــك لــن يغني الـــــــــحذر

و من في ابتداء العمر لم يغد فاتحــــاً              ثغور المعالي لا يــــــــرام لــــــه نصـــر

فإن هبت أمراً لأغنى عن لقائـــــــــــه              فلجه بقلب دونه يصــــدع الصخــــــــــر

و خص غمرات الموت لا باخلا بمــــا              عليك بنزر منــه قــــد أنعـــــم الدهـــــــر

فلا خيـــر في عــــز إذا كان مجتنــــى              بذل و أي الــــــــعز يجلبـــــه الشــــــــــر  

و كن عالماً أن لا فرار من القضــــــــا              و أين يفــــــر المرء ممن لــــــه الأمــــر

و لا بد من ورد الردى فأغد ساميـــــــاً              بعزمك نحو الــموت يسم لك الذكــــــــــر

فكـــــــم من فتى ساد الكهـــــول بجـــده             و ما الصدر إلا من له إتســــــع الـــصدر

و أولى الورى بالمدح ممن عــــم فضـــ             ـله الأنام و منهم عـــــم أنعامـــه الشكــر     و إن أشــــــد الـــنـــــاس ذمــــاً لنفســـه            إذا افتخــــروا من بالرفات لـــــه الفخــــر

و كل غنـــــــي بالكنـــــوز فظاهــــــــــــر            إلى ما به استغنى عليـــــه بــــــدا الفقـــر

و لم يسع في الدنيا لبيب لغيـــــر مـــــــــا           من الله في الاخرى يجاز لـــــــه الأجــــــر

و أغبى الورى من آزر الخـلــــــــف بالذي          يخلفـــــــه عفــواً و يصحبـــــــه الـــــوزر      

                                   

 

عرض الحياة أقل ما يسمى له            من جوهر العلياء بعض طلابــه

و مواسم اللذات في عمر الفتى           كالبرق أومض من خلال سحابه

بل إنما يسعى اللبيب لقوتـــــــ             و لستر عورته و صون حجابه

لم يثنه عن ظل ضال طويلـــــع            و شرابه خدع الفلا بسرابــــــه     

 

            * * * * * *

سعي الفتى لسوى كفاف العيش غاية جهله

إذ فيه يخسر ما يؤمـــــل ربحه من أجلـــــه

و الفقر لا يــــــؤذي الفقير اذى الغني ببخله

إذ ذا يعان و ذا براد به الردى من نجلــــــــه

 

       * * * * * *

ليت حادي مطيّهم يوم سارا خفف السيــــر بالقلوب الأســـــــارى

أو رأى صحبة الجسوم التي استصبحت منها الإسماع و الإبصارا

و حبيب أودعته نور عينــــي فتولى و استودع القلــــــب نـــــــارا

سار يبدي تجلداً في اختيار السيــــر لما سعــى إليــــه اضطـــــرارا

و برغمي و رغمـــــه أن نـــــــرى دار لذاذاتنـــــــا لشانيـــــــه دارا

و عزيز علي أن تقضي الأيــــــــــــام فيه لغيــــــــرنا الأوطــــــــــارا

و لو جدي أغار أن تقبل الأوطـــــــان من بعد أهلهــــــا الأغيــــــــارا

زادها الأنس وحشة بسوى الأحباب عندي فازددت عنهــــــا نفــــــارا

لائمي في تهتكي في جُد على القلب بصبر أو فأقبـــــــــل الأعــــــــذارا

قد تسليت لـــو وجدت سلوّاً و تصبرت لــــــــو ملكـــــت اصطبـــــــــارا

و تستــــــرت في الدنــــو و لكـــن كشف الحب بيننــــــا الاســــــــــــتارا

 

        * * * * * *  

 ما زال يخيفني الغرام بحبكـــم                 حتى خفيت به عن الأوهــام

   و فنيت حتى لو تصورني الفنا                 لم يدر أين أبا و فيه مقامي

و هذا نموذج من غزل الشاعر المبدع, الشيخ (محمد منتخب الدين العاني) ذلك السحر الحلال الذي تطير إليه القلوب و تهفو له الأسماع, (و إن من البيان لسحراً)

لعاذلي قـــلب و لي قـلـــــب       مقيـــم في أثــــــــرهم نهـــب

تيمــــــه الغـــيد فلا لــــومة       نثنيــــه عنهــــن و لا عـتــب

ما تفعل البيض و سمر القنا       يوم الغي ما يفعــــــل الحــــب

لله أقمـــــــار تبــدت علــــى       غصـــــــون بان تحتها كــــثب

تقاسموا لبي غداة النــــــوى       و ليس لـــي منذ نـــأوا لـــــب

فلي فؤاد قـــد براه الأســـــى        و مدمع من بدهــــــم سكــــب

و صاحب قلت و قد هـــب من       رقدته و الشرب قــــــد هبــــوا

قم فاسقينها كنجيع الطلــــــى         وردية هـــــــام بهــــا القلـــب

و صبها أطـــفئ بها غلــــــتي         فإنني مغــــــــرى بها صــــب

فاستلها من دنهــــا شعلــــــــة         لألاؤها في الكأس لا يخبــــــو

مسكية الأنفــــــاس عانيــــــــة         لو لامسوا شيباً بهـــا شبــــوا

مطلعها الراووق إذ كأســــــهـا         شرق لنا و الحاسي الغــــــرب

كأن ساقيها و قــــتد أقبـلــــــت         و كفـــــــه من تحتها قطــــــب

بدر دجي يحمل شمس ضحـــى          و قد بدت من حولهـــا الشهب

                   *         *         *

و رب أطلال عـــــفاها البلـــــى           فهي كأرض ميهـــــا جـــــدب

ما ضحـــــك البــــرق بأرجائهــا          إلا بكت في جوها الســـــــحب

يندبني الشـــــوق لأبكي بهـــــــا           و ليس يجدي النوح و النـدب

خلـــــت فلا سعـــدى و لا زينــب           بهـــــا و لا ليلى و لا عتـــــب

خال بـــــها الحال و أبلى البلـــى           جديدهــــا و انصدع الشعــــب

بالأمس ســـــرب من أنيس الظبا           و اليوم من وحش الفلا سرب

كأن مــــــــا بيــن رســـوم لهـــــا           و بين أحداث الــــــردى حرب

قلت لصحبي حين هــــــاج الجوى           بي لومهم ما هكذا الصحــــب

دعوا ملامي فلكــــــم في الهــــوى           شعب و لي من دونكم شعــب

    

هذا غيض من فيض, و يسير كثير,مما تركه بعض أدباء العلويين الذين ضنّ عليهم الزمان بالشهرة, و بخل عليهم بالظهور, مع ما هم فيه و عليه من رفعة المقام الأدبي.

و كم كنت مسروراً لو اتسعت عجالتي هذه و سمح لي وقتي, و بكلمة أولى, لو أوتيت قوة القيام بواجب كان و ما زال يعتلج به صدري, و يهفو له جناني, ألا وهو استخراج كنز ثمين من العلوم و الآداب العلوية, مدفون تحت جدار من حديد أقامته عليه سياسة الجور في العصور المظلمة, و تقديمه إلى الجمهور الكريم:

    تلك آثارنا تدل علينا           فانظروا بعدنا إلى الآثار

و لكن مثل هذه الثروة الممتعة من العلم و الأدب, و قد لعبت بها أيدي الجهل و الأمية, و عبثت بها ألسنة الفساد و الطغيان و مزقتها سياسة الظلم في ما مضى شر ممزق,يحتاج جمعها و تهذبيها إلى سعة في الوقت و الإطلاع, و أنّى لي ذلك.

و إنني لأكتفي الآن بما نلته من هذا الغرض و في ذمة القدر تحقيق ما بقي في نفسي من رجاء.

  

          الأدوار التاريخية التي تعاقبت على العلويين

سبق أن قلنا أن كلامنا عن العلويين يتناولهم منذ قيام الدولة الحمدانية في حلب, و لذا نرى لزاماً علينا التبسيط في معرفة نشأة تلك الدولة و العصر الذي نشأت فيه, و معرفة مدى قوتها و اتساع حدودها و عظمة رجالها.

لقد تكلم المجتهد الأكبر السيد( محسن الأمين) أعلا الله مقامه, عن الدولة الحمدانية في كتابه( أبو فراس الحمداني)ما نصه:

( كان عصر الحمدانيين عصراً قد انقسمت فيه المملكة الإسلامية المترامية الأطراف إلى ممالك و إمارات جلها غير عربية, فكانت خراسان و ما و الأهابيد السامانيين, و ما وراء النهر بيد الغزنويين و كلتا الدولتين غير عربية, و بغداد و فارس بيد البويهيين و هم من الفرس, و الخلافة العباسية في بغداد لا حول لها و لا طول, و إنما لها الخطبة و المشاركة في السكة في البلاد الإسلامية الشرقية, و الشام و مصر بيد الإخشيديين و هم أتراك و افريقيا و المغرب بيد الفاطميين, و الأندلس بيد الأمويين. 

فأنشأ الحمدانيين مملكة إسلامية عربية في الموصل و ديار بكر و ديار ربيعة و الجزيرة و حلب و العواصم إلى لبحر المتوسط شمالاً, و إلى مملكة الروم و قاعدتها القسطنطينية شرقاً, و إلى فلسطين و دمشق غرباً, فردوا غارات الروم و أغاروا على بلادهم و فتحوا كثيراً منها و الروم يومئذ في قوتهم, و قهروا القرامطة و الخوارج الشراة كهارون الشاري و غيرهم, و تسلطوا على الأكراد و أخضعوهم, و أخضعوا قبائل العرب المنتشرة في الجزيرة و بادية الشام صاحبة العدد الكثير و القوة و أدخلوها في طاعتهم, و حاربوا الإخشيديين في الشام و أخذوا منهم دمشق ثم عادوا إليها بمخامرة أهلها,و كانت هذه المملكة منقسمة بين ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان, و أخيه سيف الدولة على بن عبد الله بن حمدان, و كان لناصر الدولة الموصل و الجزيرة, و لسيف الدولة حلب و العواصم و ما إليها, و كان ناصر الدولة لا يخلو من منازعة البويهيين له, و سيف الدولة يحارب الروم غالباً,و سيد بني حمدان و رئيسهم سيف الدولة, و وزيره و قائده الأول و محل اعتماده في الحروب و قيادة الجيوش و حماية المملكة أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان, و لم يكن سيف الدولة و أبو فراس طالبي ملك صرف و إمارة محضة, بل كان لهما باعث ديني و غيرة وطنية يبعثها على حماية المملكة و حفظها, فسيف الدولة يجمع من غبار غزواته للروم التي كان يقصد منها رد عاديتهم عن بلاده لبنة و يوصي أن توضع تحت رأسه في قبره, و أبو فراس يقول لسيف الدولة:

فأحوط للإسلام أن لا يضيعني        و لي عنه فيه حوطة و مثاب

و إن رجلاً كسيف الدولة و ابن عمه أبي فراس يستطيعان انشاء دولة قوية عربية إسلامية نمت في ظلها العلوم العربية و الإسلامية و الأدب العربي نمواً فائقاً في عصر تفككت فيه عرى الإسلام و العروبة, و في بقعة محاطة بالروم من جهة و بالإخشيديين و البويهيين الأقوياء من جهات أخرى, و مشسحونة في داخلها بدعايات القرامطة و الخوارج و فتنهم, و بغزوات الأكراد و القبائل العربية و فسادهم,لرجلان فريدان عظيمان خلّد التاريخ ذكرهم في صفحاته بالعز و الفخر. انتهى

 

     ذكر الملك سيف الدولة و بعض وقائعه و غزواته

وُلد الملك سيف الدولة علي بن عبد الله بن حمدان العدوي التغلبي, سنة ثلاث و ثلاثمائة(هـ) في بيت يكتنفه المجد و تحيط به عزة الإمارة, و ما إن بلغ أشده حتى اعتلا ذروة الفخار, فملك( واسطاً) و نواحيها, ثم تقلبت به الأحوال فملك(حلب الشهباء) و اتخذها قاعدة ملكه بعد أن انتزعها سنة ثلاثمائة و ثلاثٍ و ثلاثين(هـ) من يد أحمد بن سعيد الكلابي عامل الإخشيديين عليها.

و قد قال فيه أبو الفداء في تاريخه:( سيف الدولة أحد الأمراء الشجعان و الملوك الكثيري الإحسان على ما فيه من تشيع, و قد ملك دمشق في بعض السنين, و أتفق له أشياء غريبة, منها: أن شاعره كان أبا الطيب المتنبي, و منها, أن مطربه أبا نصر الفارابي, و كان سيف الدولة كريماً جواداً معطياً للجزيل, إلى أن قال: وُلد سنة ثلاث و قيل إحدى و ثلاثمائة, و إنه ملك(حلب) بعد الثلاثين و الثلاثمائة, و قبل ذلك ملك(واسطا) و نواحيها, ثم تقلبت به الأحوال حتى ملك حلب انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الإخشيد) انتهى.

و فيه يقول الثعالبي في يتيمته, كان سيف الدولة رضي الله عنه و أرضاه, و جعل الجنة مأواه, غرة الزمان و عماد الإسلام, و من به سداد الثغور و سداد الأمور, و كانت وقائعه في عصاة العرب تكَف بأسها و تنزع لباسها و تفل أنيابها و تذل صعابها و تكفي الرعية سوء آدابها, و غزواته تدرك من طاغية الروم الثأر, و تحسم شرهم المثار و تحسن في الإسلام الآثار, و حضرته مقصد الوفود و مطلع الجود, و قبلة الآمال و محط الرحال و موسم الأدباء و حلبة الشعراء, و يقال أنه لم يجتمع قط بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من شيوخ الشعر و نجوم الدهر, و إنما السلطان سوق يجلب إليها ما ينفق لديها, و كان أديباً محباً لجيد الشعر لجيد الشعر شديد الاهتزاز له, و من ملح شعره ما قاله في وصف قوس قزح و هو أحسن ما سمعته فيه على كثرته, و هذا من التشبيهات الملوكية التي لا يكاد يحضر مثلها السوقة) و هاك قوله:

و ساق صبيح للصبوح دعوتـــــه       فقـــــام و في أجفانــــه سنــة الغمــــض

و قد نشرت أيدي الجنوب مطارفـاًَ       على الجود كناً و الحواشي على الأرض

يطوف بكاسـات العقـــار كأنجـــــم        فمــــن بين منقض علينـــــا و منفـــض

يطرزها قوس الغمــــام بأصفــــــر        على أحمر في أخضـــــر تحت مبيـــض

كأذيال خــــود أقبلت في غلائـــــــل        مصبغـــة و البعض أقصـــــر من بعض  

 

قلت: إن هذا الوصف لمما ينطق عليه قول القائل(كلام الملوك ملوك الكلام).

و يقول الشيخ ناصيف اليازجي في تعريف الملك سيف الدولة منذ ذكر إتصاله بالمتنبي في إنطاكية, ملخصاً عن وفيات الأعيان.

(كان سيف الدولة ملكاً على حلب انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي, سنة ثلاثمائة و ثلاث و ثلاثين هــ) و بعد التحدث عن أدبه و اتصال الأدباء به و عرض شيء من شعره قال:( كانت ولادته سنة ولادة المتنبي و هي سنة ثلاث و ثلاثمائة هـ) إلى أن قال:( و لم يكن في الملوك أغزى منه حتى أنه كان قد جمع من نفض الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئاً و عمل لبنة بقدر الكف و أوصى أن يوضع خده عليها في لحده فنفذوا) انتهى.

و إحياء لذكرى عظمائنا العرب و ذكر أمجادهم الخالدة نرى لزاماً علينا الإشارة إلى وقائع سيف الدولة الكثيرة, و عرض بعض غزواته المظفرة, فقد وقف نفسه لرد غارات الروم المتكررة على بلاده, و وطّـد عزمه على غزوهم فلم يكن ليستريح من غزوة حتى يتهيأ لأخرى, و لم يكن لينتقل من فتح إلا إلى فتح ينتظره,و قد توغل في بلاد الروم غازياً فاتحاً حتى غزا (سمندو) و هي التي عرفها الشيخ ناصيف اليازجي في شرح ديوان أبي الطيب المتنبي عند ذكره إياها بقوله:

رضينا و الدمستق غير راض          بما حكم القواضب و الوشيــج

فإن يقدم فقــــد زرنا (سمندو)           و إن يحجم فموعدنا الخليـــج

قال الشيخ ناصيف اليازجي(سمندو) و يقال لها(سمندوة) قلعة بالروم يقال هي المعروفة اليوم(ببلغراد).

و قال صاحب اليتيمة, يقال أن سيف الدولة غزا الروم أربعين غزوة له و عليه, فمنها: أنه أغار على زبطرة, و غرقة, و ملطية, و نواحيها, فقتل و أحرق و سبى, و انثنى قافلاً إلى,درب موزار, فوجد عليه قسطنطين بن فردس الدمستق, فأوقع به, و قتل صناديد رجاله و عقب إلى بلدانه, و قد تراجع من هرب منها, فأعظم القتل و أكثر الغنائم و قد عبر الفرات إلى بلد الروم و لم يفعله أحد قبله, حتى أغار على, بطن هنزيط, فلما رأى فردس بعد مغزاه و خلو بلاد الشام منه, غزا نواحي إنطاكية, فأسرى سيف الدولة لا ينتظر متأخراً و لا يلوي على متقدم حتى عارضه بمرعش, فأوقع به و هزمه و قتل رؤوس البطارقة و أسر قسطنطين بن الدمستق, و أصابت الدمستق ضربة في وجهه, و أكثر الشعراء في هذه الوقعة, و فيها يقول أبو الطيب المتنبي التي مطلعها:

     لكل امرئ من دهره ما تعودا      و عادة سيف الدولة الطعن في العدا

و قال الشيخ ناصيف اليازجي في ذكر بناء(الحدث) لبنائها, و كان أهلها قد سلموها إلى الدمستق بالأمان سنة سبع و ثلاثين و ثلاثمائة هـ , فنزلها سيف الدولة يوم الأربعاء ثامن عشر جمادي الأخرى سنة ثلاث و أربعين و ثلاثمائة هـ ,و بدأ من يومه فوضع الأساس و حفر أوله بيده, فلما كان يوم الجمعة نازله ابن الفقاس الدمستق في نحو خمسين ألف فارس و راجل, و وقع القتال يوم الاثنين سلخ جمادي الأخرى من أول النهار إلى العصر, فحمل عليه سيف الدولة بنفسه في نحو خمسمائة من غلمانه فظفر به و قتل ثلاثة آلاف من رجاله و أسر خلقاً كثيراً فقتل بعضهم و أقام حتى بنى الحدث و وضع بيده آخر شرفة منها, في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب, فأكثر الشعراء في هذه الوقعة).

و فيها يقول أبو الطيب قصيدته التي مطلعها:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم        و تأتي على قدر الكرام المكارم

و غزوات سيف الدولة توسيعاً لرقعة ملك العرب في أرض الروم و مواقفه المجيدة ذوداً عن حياض الوطن و ببضة الدين لرد غاراتهم المتكررة الأكثر من أن تستوعبها هذه الصفحات, و قصارى القول أن من الفضول الإسهاب في تقديم شخصية سيف الدولة إلى القراء و هي التي عرف التاريخ فيها معاني الإجلال و التقدير فسجلها على صفحاته الخالدة الغر بكل فخر و اعتزاز.

حال العلويين في ذلك العهد و ذكر العهد بعض أمرائهم 

في غضون ذلك العهد الميمون أمن الساحل السوري من غوائل الغزاة الإفرنج رغم توالي غزواتهم عليه, و التي كانوا في أيها ينكصون على أعقابهم مذمومين مدحورين بفضل ما كان من روابط قومية و اجتماعية و أواصر ود و قربى و توثق عرى صداقة و ولاء بين هذا المليك الغازي و بين ولاة ثغور الساحل الأشداء, و بتماسكهم للذود عن حوضه تماسكهم بالولاء لآل البيت الطاهرين عليهم السلام, و بإجماعهم على حمايته إجماعهم في الأذان على (حي على خير العمل).

فقد كان على إنطاكية الأمير أبو العشائر الحسين بن علي بن الحسين بن حمدان, و على اللاذقية الأمراء التنوخيون, و في طليعتهم الأمراء, محمد و حسين ابنا إسحاق التنوخي, و علي و معاذ ابنا ابراهيم التنوخي, و على الجنوب من طرابلس إلى طبرية الأمير أبو الحسن رائق بن خضر الغساني, ثم ابنه الأمير محمد بن رائق المعروف بأمير الأمراء, و كان عامله على صور و صيدا و مرج عيون الأمير بدر بن عمار بن اسماعيل, و جلهم مدحه المتنبي و قد مر بنا ذكرهم في الفصل الثاني من هذا الكتاب.

و رغم ما حاق بالعلويين في تلك الآونة من نقص في النفوس و في الأموال و الأملاك بسبب صد غارات الروم و غزوات الإفرنج المتتالية من جهة, و العمل لإخماد الاضطرابات الداخلية كفتن الأكراد و البدو و الخوارج الشراة من جهة ثانية, مما سبب ضعفاً و قلة في العلويين و عددهم, فإن العلوي يعتبر  ذلك العهد من أخصب و أمرع عهود تاريخ حياته, لأن حكمه نفسه بنفسه و استعلاء كلمة دينه و مذهبه على يده كانا ينسيانه آلام القتل و التخريب و مشاق الأسر و الأسفار, و يجددان فيه العزم و النشاط, فيقبل على الجهاد و التضحية بقوة لا تعرف الخور, و عزائم لا يتسرب إليها الانحلال.

 

 

                 وفاة الملك سيف الدولة

و في سنة ثلاثمائة و ست و خمسين(هـ) توفي الملك سيف الدولة في حلب و كان سبب موته الفالج, و قيل: عسر البول, و حمل تابوته إلى ( ميافارقين) فدفن فيها, و عمره ثلاث و خمسون سنة.

         قيام الملك سعد الدولة و مقتل أبي فراس

بعد وفاة الملك سيف الدولة قبض على زمام الحكم في المملكة و استولى على مرافق الحياة العامة في الدولة و تولى إدارة الملك و تصريف أمور البلاد بعده, ابنه الملك(سعد الدولة) أبو المعالي شريف, و لكنه لم يتمكن من ضبط أحوال الأمة و لا أحسن التصرف في شؤون الرعية, فلم يستقم له الأمر كأبيه, إذ لم تكن له إرادة أبيه و حكمته, و بدلاً من أن يتفرغ لتوسيع رقعة ملكه و يدفع خطر غارات الروم عن بلاده, وقف نفسه لكبح جماح الأمراء الطامعين بما في أيديهم من إمارات, و لتهدئة الأحوال الداخلية التي أثارها عليه أولئك الأمراء و ساعدهم ضعفه و تهاونه في أمر الرعية, و لا أدل على خرق سياسته و سوء تدبيره من العمل لقتل خاله و ابن عم أبيه الأمير أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان, الذي قامت على قوائم سيفه عَمدُ مملكة الملك سيف الدولة, و قد اختلف المؤرخون في كيفية قتله, فابن الأثير يقول في حوادث

(357هـ) في هذه السنة في ربيع الآخر قتل أبو فراس بن أبي العلاء سعيد بن حمدان, و سبب ذلك أنه كان مقيماً بحمص فجرى بينه و بين أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان وحشة, فطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى (صدد) و هي قرية في طرف البرية عند حمص, فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب و غيرهم, و سيرهم في طلبه مع(قرعويه) فأدركه بصدد فكبسوه, فاستأمن أصحابه و اختلط هو بمن استأمن منهم, فقال قرعويه لغلام له اقتله, فقتله و أخذ رأسه و تركت جثته في البرية حيث  دفنها بعض الأعراب و لقد صدق من قال:(إن الملك عقيم) انتهى.

و قال ابن خالويه في شرح ديوان أبي فراس, لما مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلب على حمص فاتصل خبره بأبي المعالي و غلام أبيه قرعويه فانفذ إليه منت قاتله, إلى أن قال: و بلغني أن أبا فراس رضي الله عنه أصبح يوم مقتله كئيباً و كان قلقاً في تلك الليلة و رأته ابنته  امرأَه أبي العشائر و هو على تلك الحال فأحزنها حزناً شديداً ثم ركب على الحال فأنشأ يقول و رجله في الركاب و الخادم يضبط عليها السير, و إنما قال ذلك كالذي ينعي نفسه و إن لم يكن من قصده ذلك قال رحمه الله:

أبنيتي لا تحزنــي     كل الأنــــــام إلى ذهـــــاب

أبنيتي صبراً جميـ     ـــلا للجليل من المصــــاب

نوحي علي بحسرة    من خلف سترك و الحجاب

قولي إذا ناديتنــــي     وعييت عن رد الجـــــواب      

زين الشباب أبو فرا    س لـــم يمتــــع بالشبـــاب

 ثم سار فلقي قرعويه فكان من أمره ما كان, و هذا آخر ما قاله من الشعر فيما بلغني , انتهى.

و قال ابن خلكان: ذكر ثابت بن قرة الصابي في تاريخه قال: جرت حرب بين ( أبي فراس ) و كان مقيماً بحمص, و بين    ( أبي المعالي شريف بن سيف الدولة) و استظهر عليه أبو العالي و قتله في الحرب و أخذ رأسه و بقيت جثته مطروحة في البرية إلى أن جاء بعض الإعراب و كفنه و دفنه, و قال غيره: لما قتله قرعويه لم يعلم به أبو المعالي, فلما بلغه الخبر شق عليه,انتهى.

و قال السيد (محسن الأمين) في كتابه: ( أبو فراس الحمداني) و الصواب أن الذي قتله (قرعويه) و أن أبا المعالي لم يعلم بقتله إلا بعد وقوعه إلى أن قال: و من المؤسف أن يكون أبو فراس الأمير الشجاع الكبير النفس العالي الهمة العربي الصميم, يقتل بيد غلام مملوك لغلام مملوك, و ما أحسن و أصدق قول المتنبي كما في اليتيمة:

   فلا تنلك الليالي أن أيديها           إذا ضربن كسرن النبع بالغرب

   و لا يعن عدواً أنت قاهره           فإنهن يصدن الصقر بالخـــرب   ضعف الدولة الحمدانية و جلاء سعد الدولة عن حلب

بعد مقتل أبي فراس أخذ يدب الضعف و الوهن في جسم الدولة الحمدانية, و تقوى روح الشقاق و التمرد في الرعية, إلى أن بلغ من جراء ذلك أن ثار(قرعويه) الغلام المذكور آنفاً على الملك سعد الدولة نفسه, سنة (359هـ) و استحوذ على حلب و أخرجه منها خائفاً يترقب, فسار إلى (طرف) و هي تحت حكمه فأبى أهلها أن يمكنوه من الدخول إليهم, فذهب إلى أمه في (ميافارقين) و أمه بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس, فمكث عندها حيناً, ثم سار إلى (حماه) فملكها و سعى في عمارة (حمص) التي كان خربها ملك الروم سنة(359هـ) فيما خرب من البلدان الساحلية, كما في تاريخ أبي الفداء و ذلك أن ملك الروم دخل إلى طرابلس فأحرق و سبى و قتل منها خلقاً كثيراً, و كان صاحب طرابلس قد أخرجه منها أهلها لظلمه, فأسره الروم و استحوذوا على جميع أمواله و حواصله         و كانت كثيرة جداً ثم مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلداً سوى القرى, و تنصّر خلق كثير على أيديهم,و جاؤوا إلى (حمص) فأحرقوا و نهبوا و سبوا, و مكث ملك الروم شهرين يأخذ من البلاد ما أراد, و يأسر من قدر عليه و صارت له مهابة في قلوب الناس, ثم عاد إلى بلده و معه من السبي نحو من مائة ألف ما بين صبي و صبية, و بعث سرية إلى الجزيرة فنهبوا و سبوا, و عاد الروم إلى إنطاكية فملكوها و قتلوا خلقا كثيراً من أهلها, و ركبوا إلى حلب, و أبو المعالي محاصر قرعويه الذي انتزعه ملكه كما تقدم, فخافهم و هرب عنها, فحاصرها الروم و أخذوا البلد و امتنعت عليهم القلعة, ثم اصطلحوا مع (قرعويه) على هدية و مال يحمله إليهم كل سنة, و سلموا إليه البلد و رجعوا عنه, و في عودة أبي المعالي عن حلب هرباً من ملك الروم رجع إلى عمارة

( حمص) و بعد أن أتم ترميمها سكنها إلى أن كانت سنة (366هـ), اختلفت الأمور على قرعويه فكتب أهل حلب إلى أبي المعالي و هو في حمص أن يأتيهم, فسار إليهم و حاصر (قرعويه) في حلب أربعة أشهر ثم افتتحها.   

    انهيار الدولة الحمدانية و قيام الدولة المرداسية

مات سعد الدولة و خلفه على المملكة ابنه(سعيد الدولة, أبو الفضائل) الذي اضطرمت في عهده نار الفتن فعجز عن إخمادها, و كثرت حوادث الشغب و الاضطرابات الداخلية فلم يستطع ضبط الأحوال و لم يحسن تصريف الأمور, و كانت قبائل البادية و في مقدمتها قبيلة بني مرداس تلعب دوراً هاماً في حقل إثارة الشغب على المليك الواهي و حمل الأمة على شق عصا الطاعة عليه, و قد اغتنم المرادسيون ضعف الحمدانيين, و بنوا دولتهم على أنقاض تلك الدولة المترامية الأطراف التي كان يخشى بطش رجالها ملك الروم على عرشه.

و باستيلاء المرداسيين على حلب أخذ التاريخ يغفل ذكر العلويين و يطمس عليهم, إذ ما من ريب أن التاريخ حليف المنتصر, و من مأثور الحكم في هذا الباب قول أمير المؤمنين علي عليه السلام, ( إذا أقبلت الدنيا على امرئ أعارته محاسن غيره و إن أدبرت عن امرئ سلبته محاسن نفسه).

و لهذا فقليل من نجده يتكلم عن العلويين و إذا تكلم فقليلاً ما ينصف.

  سقوط الدولة المرداسية و استيلاء الدولة الفاطمية على حلب و حال العلويين فيها

في سنة أربع مائة و تسع عشرة جاء جيش كثيف من مصر إلى حلب و عليها الملك( أبو علي صالح مرداس بن إدريس الكلابي) الذي لقب نفسه ( أسد الدولة) ثم قام بعده على حلب, حفيده (نصر) المعروف بــ (شبل الدولة) و ما زالت الدولة المرداسية في حلب إلى سنة أربع مائة و تسع و عشرين هـ  حيث قتل الجيش المصري الفاطمي (شبل الدولة) هذا آخر ملوك بني مرداس, و استولى المصريون على حلب و أعمالها, و ضموها إلى ملكهم في مصر كما ضموا الشام من قبل.

ساهم العلويون فعلاً بتقوية روح الدعوة الفاطمية و عملوا بكل ما أوتوا من قوة لنجاحها و إيصالها إلى النفوس و نشرها في البلاد, اعتقاداً منهم أن الخلافة حق أبناء فاطمة, و قد آن لهذا الحق المغتصب أن يعود لأهله, و تخلصاً من حكم الدولة المرداسية التي سلبتهم سلطانهم, فأسرعوا إلى البيعة يتفيأون ظلال دولة علوية, مكتفين بإعلان شعائرهم الدينية و إعلاء كلمة مذهبهم الولائي, و كلهم عيون متطلعة و آمال باسمة للمستقبل الذي عملوا لازدهاره و فزعوا من حاضرهم إليه, فلم يضنوا بثمين في سبيله و لا رغبوا بشيء عنه, ينشدون الراحة في أفيائه, و الحرية ترف عليهم من أجوائه, فيحيون حياة تنسيهم آلام حاضرهم و تعيد إليهم ذكرى ماضيهم الطيبة العبير, و لكن في القدر ما لم يكن في حسبانهم.

لقد تنكر الفاطميون لإخوانهم العلويين و جردوهم من مناصب الدولة, و نعموا بمرافق البلاد و خيراتها, و استأثروا بالحكم دونه,و لم يقف الأمر بهم دون ادعاء الخلفية الفاطمي العصمة لنفسه و اعتقاد تابعيه ذلك فيه, مما لا يتفق و اعتقاد العلويين, إذ لا عصمة عندهم بعد الأنبياء و الرسل لغير الأئمة الإثني عشر عليهم السلام فأصبحوا متفقين مع الفاطميين في المبدأ و مختلفين بالغاية.

و لما لم يجد العلويون ضالتهم المنشودة عند إخوانهم الفاطميون و يئسوا من إنصافهم إياهم, انكمشوا على  أنفسهم و انطووا على ذواتهم, و آثروا الطاعة لا جبناً و ذلا ًوهم العرب الأباة الذين تعودوا ممارسة الحروب و قيادة الجيوش, و لزموا السكينة تجنباً للفتنة و هم الذين عاشوا في بيئة مشحونة بالخصومات و الاضطرابات, و لكنهم إذ لزموا الهدوء فلأن الندم على مسارعتهم للبيعة عن غير تدبر و روية أوجد فيهم ذهولا عن أنفسهم سد عليهم مذاهب تفكيرهم و شغلهم عن تلمس أسباب النجاة, و إنا كثيراً ما نرى إنساناً أي إنسان إذا أقدم على أمر خطير تعقبه ندامة يفقد صوابه و يضطرب حبل تفكيره, فلا يبصر أنَّى يضع قدمه و لا يعرف ما يصنع و بمقدار خطورة الأمر و مبلغ تأثره منه يكون ذهوله عن نفسه و انشغاله عن إصلاح حاله.

و قصارى القول فإن العلويين بالرغم من حسن بلائهم لإعلاء كلمة إخوانهم الفاطميين و استجابتهم دعوتهم و العمل لتوطيد دعائم ملكهم لم يجدوا لديهم ما تثلج به و ترتاح إليه نفوسهم إلا اعتلاء مذهبهم الولائي الذي بلغ أوجه في ظلال تلك الدولة, و إلا ازدهار العلوم و الآداب و السياسة في غضونها, أما ما كانت تصبو إليه نفوسهم من متع الحياة و سعادتها و لذائذ الحكم و مشتهياته فلم يظفروا بشيء منه, بل على العكس فقد قلبوا لهم ظهر المجن, و أقصوهم عن الحكم, إلا بعض الأمراء الحمدانيين الذين نشأوا في مصر من أبناء الملك ناصر الدولة الحسن بن عبد الله الحمداني ملك الموصل, نذكر منهم الأمير ناصر الدولة أبا علي الحسن بن حمدان.كان الأمير ناصر الدولة شجاعاً عاقلاً نشأ في مصر و ولي فيها قيادة جيوش المستنصر العلوي, و في أيامه اختل حال المستنصر و قوي الأتراك, فطلبوا إخراج ناصر الدولة من مصر, فأرسل إليه المستنصر يأمره بالخروج, فخرج إلى الجيزة ثم إلى بني سنيس, فلحقت به العساكر تريد إقصاءه, فقاتلها و هزمها و عظم أمره فاستولى على الريف و قطع الميرة عن مصر براً و بحراً, فأصابها ضيق شديد و غلاء و وباء فكاتبوه في الصلح فأجاب إليه, ثم كان له الأمر و النهي في القاهرة,و رتب للمستنصر في اليوم مائة دينار, و أقام على مدة إلى أن ائتمر به جماعة من قواد الأتراك فقتلوه غيلة عام(465هـ) في دار له على النيل كانت تعرف بمنازل العز و ما زالت هذه حال العلويين مع إخوانهم الفاطميين إلى أن دالت دولتهم, و طوى الأيوبيون صفحتها بظهورهم على مسرح الحكم.

 

           سقوط الدولة الفاطمية و قيام الدولة الأيوبية

                         و حال العلويين فيها            

استولى الأيوبيون على مصر سنة(569هـ) و أزالوا شعار الفاطميين, و قضوا على عاداتهم و تقاليدهم, و منعو الأذان بـ(حي على خير العمل) و عزلوا قضاة الشيعة و استنابوا قضاة شافعيين, فساءت حال العلويين و فُتّ في عضدهم, و انتقلوا من سيء إلى أسوأ, و لما سُقط في أيديهم و رأوا أنهم قد حرموا من حرية اعتقادهم أقدس أمانيهم في الحياة و أغلى ما لديهم من ثمين, اخلدوا إلى السكينة إشفاقاً على نفوسهم و حرصاً على وحدة صفوف الأمة أن يعتورها التفكك و الانحلال, و هم في وقت أحوج ما يكونون إلى التضامن درءاً لخطر جيش الصليبين عدو البلاد المشترك, و قمعاً لفتن القرامطة المشبوبة نارها على العلويين خاصة, أثارها عليهم موقظوا عين الفتنة خشية التقائهم على صعيد سياسي واحد التقاءهم على اسم التشيع, و قد سبق أن التقوا سنة(353هـ) حيث قصد القرامطة أخذ مدينة طبرية من يد الإخشيد صاحب مصر و الشام, و طلبوا من الملك سيف الدولة أن يمدهم بحديد يتخذون منه سلاحاً, فقلع لهم أبواب الرقة و كانت من حديد صامت, و أخذ لهم من حديد الناس حتى أخذ لهم أواقي الباعة من الأسواق و أرسل إليهم بذلك كله إلى أن قالوا له اكتفينا.

فرأى القائمون بتصريف أمور الدولة أن في إيقاد نار الفتنة بين العلويين و القرامطة إبقاء على عرشهم, فأوقعوا بينهم و أجادوا إحكام حبل الوقيعة, فتمزقت صفوفهم و تحكمت العداوة و البغضاء في نفوسهم و قعدوا لبعضهم كل مرصد, فقرت عيون الفاتحين و اطمأنت قلوبهم و قد كان ملكها عليهم الذعر من التقاء  فرق الشيعة في البلاد عداوتهم, كيف لا, و لما تمَّح من مخيلاتهم صورة كتاب المقدم (راشد الدين بن سنان) إمام الطائفة الإسماعيلية, إلى الملك,( نور الدين محمود), و قيل إلى الملك,( صلاح الدين يوسف بن أيوب), و من بعض ما جاء فيه:( إذا وقفت على كتابنا هذا فكن لأمرنا بالمرصاد و من حالك على اقتصاد, و اقرأ أول النحل آخر صاد).

و ما هذا إلا واحداً من كثيراً من الكتب المفعمة بلغة التهديد و الوعيد, فأيقن ولاة الأمر بالمثل القائل( من مصلحة الحاكمين اختلاف المحكومين) فعمدوا إلى توسيع شقة الخلاف بينهم ما اتسع لهم الحال.

كان موقف العلويين آنذاك بالغ الخطورة و الرهبة, فهم بين نارين ملتهبتين, عسف الولاة و عاديات القرامطة, و أنكأ من هذا كله عجزهم عن درء أي الخطرين قبل وضع الحرب الصليبية الإسلامية أوزارها, لأن الواجبين الديني و الوطني كانا يقضيان عليهم بالتعاون و لو مع مبغضيهم لاستنفاد البلاد من أيدي الغزاة الطامعين و إقصاء الدخيل الأجنبي عنها, فنسوا مصالحهم الخاصة و تناسوا أحن جيرانهم و سوء معاملتهم في سبيل المصلحة العامة, و أبلوا في تلك الحرب الضروس بلاء حسناً, تلك الحرب التي كادت تأتي عليهم لوجودهم جغرافياً في أتونها الملتهب, فقاتلوا قتال المستميت ذوداً عن مقدسات دينهم و مقرات بلادهم و دفاعاً عن نفوسهم:

و لم يكن العلويون خلال توقف حملات الصليبيين لاستعادة نشاطهم العسكري في أمن و راحة, بل كانوا على العكس في حرب مع القرامطة الذين ما فتئت تحركهم أصابع الفتنة في الخفاء و تساندهم أيدي مظالم الحكام في العلن, مما اضطر العلويين إلى استعداء إخوانهم السنجاريين على القرامطة, فخفوا لنجدتهم, و على قيادتهم الأمير ( حسن بن مكزون السنجاري) الذي حشد الجموع منتصراً لإخوانه على القرامطة المعتدين, و قد نزل الأمير بمن معه على ماء يعرف بـ( عين كلاب) قرب قرية( أبي قبيس) في الجانب الشرقي من جبال العلويين, و بعد أن استراح الجيش من وعثاء السفر و أكمل أهبته انطلق الأمير به و بمن التف حوله من علويي البلاد يمعنون في نفوس و منازل أعدائهم قتلاً و تخريباً, إلى أن ضعف أعداؤهم عن المقاومة ففروا من بين أيديهم و تفرقوا أيدي سبأ, يضربون في طول البلاد و عرضها لا يلوون على شيء, و لم تقم لهم بعدها في هذه الجبال إلى الآن قائمة,فكف العلويون أيديهم عن القتال بعد أن أظفرهم الله على خصومهم, و رجع السنجاريون إلى بلادهم طيبة نفوسهم بالرغم ممن تركوا خلفهم من الشهداء و فيهم أخو الأمير و بعض أقربائه و مواليه.  و لكن الأيوبيين و لهم مقاليد الحكم في البلاد ما فتئوا يمعنون بالتضييق على العلويين و تشديد الرقابة عليهم و إقصائهم عن موارد الحكم و السياسة, مما جرح كبرياء العلويين العربية و أدمى صدرهم و أفئدتهم.

و أشد ما يقطع قلوبهم حسرات أن رأوا بلاداً ملكوها بشفار سيوفهم و سقوا أرضها زكيّ دمائهم تنتاهبها أيد لا عهد لها بها من قبل, و ينعم بمرافقها و خيراتها غزاة فاتحون, و هم أصحابها الذين درأوا عنها غارات الروم و خطر القراصنة و الإفرنج, يطردون عن مناهلها طرد غرائب الإبل.

أما في هذا ما يذكي مراجل الصدور و يجرح عزة النفوس و لا حول لهم على دفعه و لا قوة, و تجاه هذه الحوادث المؤلمة و الكوارث الجسيمة التي كانت تنزل بالعلويين من الرعاة و الرعية, و لضعفهم عن المقاومة و الدفاع لجأوا إلى كتمان ولائهم ضنا به و لزموا دور الستر حرصاً على حياتهم, و بالتزامهم دور الستر راجت الإشاعات في باطنيتهم و كثرت التقولات عليهم, و لإخلادهم إلى السكينة و عدم اهتمامهم لما نسب إليهم- اتكالاً على براءة ساحتهم- صدقت فيهم التهم الملفقة عليهم و أسدل عليهم حجاب الإهمال و النسيان, و أغفل ذكرهم إلا من ضرر يلحقه بهم المبغضون, أو وصمة يلصقها بهم المغرضون, فانقبضت نفوسهم و اضطربت أفكارهم و ذهلوا عما حولهم, فلا عمدوا إلى القوة لكبت عدوان الحاكمين,و لا اعتمدوا اللين و المداورة لاستجلاب قلوب المحكومين, بل وقفوا حيارى مبهوتين في وقت كان استخدام مواهب العقل و استعمال قوى التفكير لزاماً على كل عاقل و مفكر.

و إنما أفضل ما اهتدوا إليه في تلك الفترة القاسية من حياتهم هو محافظتهم على أنسابهم العربية الصحيحة, و احتفاظهم بخالص الحب و الولاء لأئمتهم المعصومين عليهم السلام, و انشغال بعض علمائهم بتأليف كتب قيّمة تدل على سمو مكانة مؤلفيها العلمية و الأدبية, و قد اشرنا إليها في الفصل الثاني من هذه العجالة و قدمنا نموذجاً من شعر أديبين من أدباء ذلك الجيل الرهيب, و الحق أقول لو أتيح لعلماء ذلك العصر و أدبائه إظهار مؤلفاتهم للملأ, و تسنى لهم إيصالها إلى النفوس الحرة و العقول الواعية لكان لهم من أنصار العلوم و الآداب في المجتمع نصير و ظهير,و لكن أنّى لهم نشرها و قد كان ولاة الأمر أعداء مذهب التشيع و خصومه الألداء ضربوا بينهم و بين الظهور على مسرح الحياة بسور من العيون و الأرصاد, يحصون عليهم أنفاسهم و يرقبون سكناتهم, فرغب الكثير منهم عن حياة الحضارة إلى عيشة البداوة, تفادياً من فتك ينتظرهم في نفوسهم كما مُنوا به في نفيس ولائهم إذ منعوا إعلانه فالتزموا كتمانه, فغادروا المدينة مدثرين الليل حجاباً إلى هذه الجبال التي اتخذوا منها أكناناً و من غاباتها و كهوفها ملاجئ و مدخلات.

و إنه لمما يحز في النفوس و يدمي متحجرات القلوب أن يحرم العلم و الأدب العربيان ذلك الإنتاج الفكري الخصب, و تأكله دابة الأرض أو تتلقفه مياه الأنهار و البحار, أو تلتهمه أفواه النيران خشية مقاصل الظلم و مقامع الاضطهاد, و ما استعصى منه على الإبادة و الفناء مًني بما هو شر و حاق به ما هو أدهى و أمر, من تلاعب ألسنة السوء بمضامينه, و جري أقلام الافتراء في حقوله, فحشاها دساً و فساداً و أشبعها كذباً, و ادخل عليها ما ليس منها, من أقوال حائدة و عقائد فاسدة, احتقاراً لتلك الآثار الجليلة و انتقاصاً من شخصيات مؤلفيها, و إيذاناً للمسئولين بإنزال العذاب الشديد و البأس البئيس بالآخذين بها و العاملين عليها.

        سقوط الدولة الأيوبية و قيام دولة المماليك                                                                                             

                         و حال العلويين فيها

    ما زال العلويون بين مدبي مغلوب على أمره ملكوم قلبه, منقبضة نفسه, مستخف بولائه,و بين قروي فار بمذهبه منطو على ذاته غاض بصره, يرى الفرار ذلاً, و البعد عن المجتمع نقصاً, إلى أن  قامت دولة المماليك في منتصف القرن السابع, و انتزعت السلطة من الأيوبيين و قبضت على زمام الحكم في مصر و سورية, و أعلنت مذهب التشيع و أعادت الجهر في الآذان بـ( حي على خير العمل) فطابت نفس العلويين بعض الشيء رغم أنهم ما زالوا في معزل عن الحكم إلا أفراداً من رؤساء الجند و ولاة الحصون و القلاع, الذين اختلطوا بالإسماعيليين و عرفوا جميعاً بالفدائيين, و إلا قليلا من أحفاد التنوخيين الذين هاجروا إلى لبنان, فتوصلوا بحزمهم و بما أثبتوه من شجاعتهم و إقدامهم في الحروب الصليبية الإسلامية إلى تسلم بعض الإمارات هناك, يدفعون عنها خطر غارات الإفرنج و ينقلون خراجها إلى دولة المماليك, و هذا لا يعني أن العلويين نعموا بمرافق الحياة و أصبحوا في بحبوحة من العيش و تفيأوا ظلال السعادة الوارفة, و إنما أحيا فيهم حب الحياة-و قد كانوا سئموها- وجودهم أحراراً يعلنون اعتقادهم و يجهرون بولائهم, إلى أن كانت سنة(1305م) عندما أمر السلطان ( محمد بن قلاوون ) سلطان مصر,( من سلاطين المماليك البحرية) رجاله بتسيير حملة عسكرية عظيمة إلى جبال كسروان في لبنان لإبادة الطوائف الشيعية هناك إذ كانوا أصحاب البلاد آنئذ, كما فصله العلامة ( المطران دبس ) في كتابه ( الجامع المفصل ) و أوضحه المؤرخ ( عيسى اسكندر المعلوف ) في كتابه ( دواني القطوف ) حيث يقول:

{ و من جملة من فتك بهم العرب النصيرية الذين كانوا في شمال لبنان, و لا سيما في المنيطرة, و العاقورة, و نواحي البترون, و عكار, و الضنية, ثم امتدوا إلى كسروان قبل سنة(1305م) و كانوا أشداء يساعدون إخوانهم في ( وادي التيم, و مرج عيون) و الذين تخلصوا من الموت من هؤلاء رحلوا إلى الشمال, أي إلى جهات اللاذقية و إنطاكية و اعتصموا في جبالها و بقي منهم قليل في لبنان}.

      وضع المجتمع العربي المحكوم من الشعوبيين

                       و غاية أولئك الحكام

  من أمعن الفكر و سار مع الأدوار التاريخية بترو و دقة, يدرك سر تأخر المسلمين العرب في هذه البلاد, إذ يتبين أن جل حكامهم كانوا غرباء أكبر همهم زرع بذور العداوة و البغضاء في صدور أبناء الشعب العربي و العمل لتوسيع شقة الخلاف بينهم, ليتسنى لهم بسط نفوذهم على العرب, و ذلك أن نرى أي أولئك الحاكمين و قد أدرك الفارق المذهبي بين السني و الشيعي يرتضي لنفسه أي المذهبين يراه أقرب ما يوصله إلى غايته,و يستخدم ممن درج عليه من المسلمين العرب قوماً يغدق عليه من عطاياه و يغريهم بتقريبهم منه, دون أن يكون لهم يد في تصريف أمور الدولة كما يلزم, كأنهم هم الدخيل على البلاد, و يستفزهم بمذهبه المصطنع و ما يزال بهم حتى يبعث في نفوسهم روح الكراهية لإخوانهم أبناء المذهب الآخر, و عندما يتحقق نجاح فكرته السيئة و يتأكد نمو بذور فساده في النفوس و القلوب يعمل سيفه في من ليسوا على مذهبه و يمعن فيهم قتلا و تخريباً, و إخوانهم ينظرون إليهم فلا تأخذهم بهم رأفة و لا ترق لهم عاطفة و لا تهتز منهم مشاعر, كأن لا صلة دين تربطهم و لا أواصر قربى تجمعهم, بل على العكس كثيراً ما كان ينفذ ذلك الجبار غايته الخبيثة في إخوانهم على أيديهم.

و من أنعم نظر بصيرته في أعمال أولئك الحكام الطغاة استبانت له أهدافهم التي و إن تباينت أداة تنفيذها فهي بجوهرها و حقيقتها واحدة, ألا و هي القضاء على العنصر العربي بقتل من يتمكنون من, و إذكاء الفتنة و التفرقة في نفوس البقية الباقية منه.

و من هنا تتجلى الحقيقة بهيكلها الذاتي فتبيين على أضوائها أسباب التباعد السني الشيعي, إذ كيف تندمل جراح كان يوغرها طبيبها المسئول يومياً بمراهمه السامة.           

                   مذبحة الطاغية( تيمورلنك)

و يا بئس ما صنع القدر بالمسلمين العرب إذ ألقى مقاليد أمورهم بأيدي غرباء عنهم, ولاة قساة, لا تعرف الرحمة

قلوبهم, و لا تشبع من الدم نفوسهم, من أولئك الغزاة الجفاة, الطاغية( تيمورلنك) المغولي, الذي نفثه القدر سماً زعافاً على قلب العروبة النابض, ذلك العلج الذي اتخذ من مذهب التشيع مثاراً للعصبيات البغيضة و محياً لدفائن الأحقاد المقيتة, فأوقع في المسلمين السنيين أيّما إيقاع, تلك المذبحة التي تقشعر لذكرها الجلود و توجل من هولها القلوب.

      

 

 

               مجزرة الطاغية (سليم العثماني)

ثم لا نلبث أن نرى القدر بعد حين من الدهر يعكس آيته, فبينما العلويون آمنين مستسلمين لأخيلتهم المجنحة التي طارت بهم إلى ما وراء حاضرهم, فأنستهم غوائل الأيام و مصارع الأجيال التي طالما نقضت عهود أوفياء, و خانت قبلهم أمناء, إذا بالقدر الجبار يصدر عليهم أحكامه الجائرة, و يخرج لهم من خباياه من ينفذها على يديه, تلك الأحكام التي لا هوادة فيها و لا رحمة, يقوم بتنفيذها في أواخر القرن التاسع الداهية السفاح ( سليم الأول العثماني ) الذي أدرك بسبب الفوارق المذهبية ما في نفوس الشعب من كراهية أوجدتها السياسة الدهياء و غذتها أعمال الولاة الرعناء, و هل لمثل هذا الداهية أن يضيعها من يده فرصة ذهبية, فرأى أقرب ما يوصله إلى غايته في الشرق التظاهر بالغيرة على المذهب السني, فأغرى بعض صنائعه من قضاة الرشوة و علماء السوء لإصدار فتوى بهدر دماء الشيعة(العلويين) فصدرت الفتاوي الحامدية و تنقيحها بإمضاء الشيخ (نوح الحنفي).

و لولا ما قطعناه على أنفسنا من تجنب إثارة الحفائظ, و من وجوب المحافظة على وحدة الصف, و العمل لبث روح الإلفة و الإخاء في نفوس أبناء الأمة لأتينا بالنص الكامل لتلك الفتاوى الظالمة الباطلة. و لقد رد على مفتريها الأثيم و دحض زور أقواله و منكر أفعاله سماحة الإمام الحجة(السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي) أعلا الله مقامه, في كتابه(الفصول المهمة في تأليف الأمة) و أبطل ما ادعاه من بغي الشيعة و كفرهم, و زيّف وجوه فتواه المنكرة بوجوب قتالهم و قتلهم, بحجج قاطعة و براهين ساطعة و أحاديث صحيحة و أسانيد ثابتة صريحة فليرجع إليها من شاء الوقوف عليها.

و من جراء تلك الفتوى الباطلة و القرية الصارخة بالظلم و الإثم كانت هاتيك الفظائع المنكرة و المجازر الرهيبة التي مثل بها السفاح(العثماني) في الشيعة(العلويين) شر تمثيل.

قال مؤلفوا التاريخ الحديث:( كان السلطان سليم الأول محنكاً في الحرب و السياسة, فقد رأى أن يوقف الفتوح في أوربا, و إن يستولي على بعض بلاد الشرق, فبدأ بفارس و كان يحكمها(الشاه اسماعيل الصفوي).

و قد استاء السلطان سليم من الشاه اسماعيل لمحاولته نشر المذهب الشيعي في الأناضول, و تحريض الأمراء على مقاومة العثمانيين, و لذلك غزا سليم الأول بلاد فارس و كسر الفرس في  موقعة جلديران قرب تبريز في سنة(1514م) و احتفظ بكردستان و ديار بكر. انتهى .

لقد عرف السلطان سليم من أين يأتي الشاه اسماعيل, إذ عمد لمحاربته داخلياً بما أوحاه إليه شيطان السياسة, فبث دعاته في الأمة يحملونها في الخفاء على التمرد و شق عصا الطاعة على الشاه,و يخوفوّن اللاشيعيين استعلاء المذهب الشيعي الذي تغلغل في الأناضول حتى كاد يستولي عليه, و الشاه غافل عما يحاك له, و من الغريب أن يجري مثل هذا بين ظهرانيه و لا يراه, و هو المشهور بيقظته و بعد نظره و نفاذ بصيرته في عواقب الأمور.

     و لكن إذا حم القضاء على امرئ     فليس له بر يقيه و لا بحر

سدر أولئك الدعاة في غيهم و تمادوا في غوايتهم فضللوا الآراء القاصرة, و سحروا العقول الساذجة و أغروا النفوس بما منوها من أساليبهم الخادعة, و وسعوا شقة الخلاف بين صفوف الأمة, فلم ينتبه الشاه إلى نفسه إلا و هو وسط بركان من نيران الفتن لا يلبث أن ينفجر فيهوي به إلى مكان سحيق, نظر إلى ما حوله فرأى أولئك الدعاة و قد استفحل أمرهم و استعصى داؤهم, فأخذ يدعو الأمة باللين تارة و بالقسوة أخرى إلى التضامن و نبذ الفوارق, و يحضهم على مقاومة العثمانيين, و لكن, سبق السيف العذل, فلم تجده حكمته فتيلا إذ كانت تأصلت العداوات في النفوس, و تحكمت البغضاء في الصدور, و استبد بصفوف جيشه الضعف و الانحلال, و عدوه ذلك السفاح العثماني يرقب تلك الأوضاع عن كثب فغزا بجيشه المتأهب بلاد فارس و كسر الصفويين كما تقدم, و أعمل سيفه بعلويي فارس و العراق, و فيما يتعلق بمصر و سورية فقد قال مؤلفوا التاريخ الحديث.

(أما في مصر و سورية فقد ساءت العلاقات بين المماليك و العثمانيين, لأن المماليك كانوا أصدقاء الصفويين و ظهرت منهم بعض تصرفات عدائية نحو العثمانيين, و من جهة أخرى كان سكان سوريا يرغبون في التخلص من حكم المماليك لسوء حالة البلاد, و قد اتجه سليم الأول نحو سورية و حارب المماليك و على رأسهم سلطانهم(قانصوه الغوري) في موقعة(مرج دابق) قرب حلب, سنة(1516م) و انتصر عليهم, و قد ساعده بعض ولا ة سورية ضد المماليك منهم:

خير بك, نائب حلب, و الأمير فخر الدين المعني أمير الشوف في لبنان).

و ذلك أن السلطان سليم اتجه إلى سورية بأطماعه التي لم تكن لتقف به عند حد, تنفيذاً لخطته المرسومة و لما يمض على فعلته الشنعاء في العراق إلا القليل, و لم يكن نصيب السوريين بأقل من نصيب إخوانهم العراقيين من تفشي دعاته فيهم و انشقاق صفوفهم و انحلال عزائمهم, مما سبب سوء حالة في البلاد تذرع فيها الراغبون بالتخلص من حكم المماليك, فعملوا ما وسعهم لإساءة العلاقات, بين المماليك و العثمانيين, و جهدوا أنفسهم لإيجاد جو من التوتر بين الدولة و الرعايا أنفسهم, و بذلوا ما أمكن لنشر الفوضى بين طبقات الشعب تهيئة لاستيلاء العثمانيين على البلاد, فكانت موقعة(مرج

دابق) التي انتهت بدحر المماليك و انتصار العثمانيين و إمعان السلطان سليم في نفوس العلويين و دورهم قتلاً و تخريباً,لقد انصب عليهم انصباب السيل و انقض عليهم انقضاض الصواعق المحرقة, فأخذهم أخذاً وبيلا و فتك بهم فتكاً ذريعاً, و لم تهدأ نفسه الثائرة و تستقر أعصابه المتوترة حتى ظن و ظنت بطانته الفاسدة أن تلك الفرقة انقرضت أو كادت, فأغمد سيفه الأثيم و هو ينظر إلى تلك الدماء البريئة تقطر منه فتأخذه العزة بالإثم, و قد أباد بتلك الفتوى الجائرة من مؤمني حلب أربعين ألفاً أو يزيدون, و انتهبت أموالهم و أخرج الباقون من ديارهم.

     لجوء العلويين إلى جبالهم و بدء عصر                 

                  التقهقر فيهم

بعد أن سكنت هاتيك العاصمة الهوجاء و الغضبة الجامحة أخذ العلويون السالمون من مجزرتين في العراق و سورية يجمع بعضهم بعضاً, و يتسللون تحت أجنحة الليل لو إذا هذه الجبال, متوافدين من مختلف الأنحاء يعتصمون بقننها و يلوذون بغاباتها و كهوفها, فراراً من تلك السيوف العادية التي كانوا يتمثلونها تقطر من دمائهم, و لم يقتصر السلطان سليم على تلك المجازر الرهيبة و فظائع المنكرة التي مثل بها في العلويين, بل استجلب العشائر التركية من الأناضول و كان يقدر عدد أفرادها بمليون نسمة, و أسكنهم في السهول المحيطة بمعاقل العلويين من جبال طوروس إلى جبال عكار,و لا تزال بقاياهم في هذه البقعة حتى  اليوم, و سلطهم على العلويين المحاصرين في جبالهم بغية إفناء هذا الشعب عن بكرة أبيه, و هي فكرة خبيثة كانت ترمي إلى غرضين في وقت واحد, أولهما: تتريك هذه البلاد ,و ثانيهما: القضاء على العلويين, و قد فشل الغرضان في هذه البلاد, و لكنهما نجحا في الأناضول حيث احتشد فيها بعدئذ الملايين من الترك و الأرمن و الأكراد.

و قد استطاع السلطان سليم أن يحشر العلويين السالمين من أذاه في هذه الجبال الوعرة الضيقة لا يستطيع أحدهم الخروج منها إلا إذا كان يفضل الموت على الحياة,فالترك محيطون بجبالهم إحاطة السوار بالمعصم و قد عمروا المدائن و استوطنوا السواحل و بثوا على منافذ الجبل العيون و الأرصاد, و كثيراً ما كانوا يهاجمون العلويين في عقل دورهم فيقتلون و يدمرون و ينهبون حتى اضطر أكثر العلويين إلى سكنى المغاور و الأنفاق, تفادياً من سيوف أولئك الأتراك الذين(كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون).

و أشد ما يؤلم المسلمين العلويين و يجرح كبرياء أنفتهم العربية أن كان ما يجري عليهم باسم الدين, و الدين من ذلك كله براء, إنما هو افتراء على الدين و أهله( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم و ويل لهم مما يكسبون).

و إذا كان العلويون اتقوا شفار السيوف بلجوئهم إلى الكهوف و المغاور فأنّى لهم اتقاء مخاوف قلوبهم التي تمثلت في خواطرهم صلالاً تنهش أحاسيسهم و مشاعرهم, و تقضّ مضاجعهم فلا تعرف الراحة و الاطمئنان سبيلاً إلى قلوبهم, و لا الهدوء و الاستقرار منفذاً إلى أفكارهم, فهم في مأمنهم خائفون و حيث كانوا معذبون, قذف في قلوبهم الرعب و امتلأت نفوسهم خيفة , و تقطعت بهم الأسباب و سدت في وجوههم المذاهب تتنازعهم الحسراة و تعتورهم الخطوب و الملمات, فمثلهم مثل طير وقع في أحبولة صائد كلما حاول التخلص أطبقت عليه خيوط الأحبولة و زادت به تعلقاً فلا نفسه النزاعة إلى الحرية ثابتة إلى الهدوء و لا حبال الشبكة  مكنته من الإنطلاق فلم يزل في مد وجز إلى  أن خارت قواه و ضعف عن الحركة فأغمض عينيه و استسلم لمدية الصياد.

و من تبين بعين الإنصاف مبلغ ما مُني به العلويون في تلك الأدوار المظلمة من مظالم تأبها الأذواق السليمة و تستنكرها الضمائر الحية, عذرهم على ما وصلت إليه حالهم و أكبر فيهم صبرهم و صمودهم لتلك العواصف الهوج التي كانت تتنازعهم صباح مساء, فقد حيل بينهم و بين ما يشتهون كأن لا خلاق لهم في ملذات الحياة الدنيا و مترفاتها, و أبعدوا عن المدينة و الاجتماع كأن لا وجود لهم في خارطة الوجود, و سكنت دورهم و صودرت أملاكهم و نهبت أموالهم فلا حول لهم على درء شيء من هذا كله و لا قوة, و بحكم ما نزل بهم من كوارث و ما ألمّ بهم من نوازل و لبعدهم عن المدينة و الاجتماع و انزوائهم في الغابات و الكهوف, تأخروا في ميادين الثقافة العامة و تفشى فيهم الجهل و الأمية, و سادهم التزمت و الانكماش و زين لهم حب الحياة إيثار العزلة فألفوا الوحدة, و استسلموا للاستكانة و غضوا أبصارهم عما يحاك لهم من دسائس و أصمّوا أذانهم عما يسمعونه من تهم توجه إليهم و أكاذيب تلفّق عليهم, فلا يقابلون ذلك كله إلا بهز الكتف كأن الأمر لا يعنيهم, أو كأن غيرهم المقصود بتلك الأراجيف و التخرصات.             

             العشائرية و أثرها في العلويين

و أشد ما ينكأ جراح النفوس و يدمي متحجرات القلوب ما انتابهم في داخليتهم, ألا و هو انقسامهم على نفوسهم عشائر, بسبب أنهم من قبائل متفرقة و من بيئات مختلفة, الأمر الذي أخضعهم لعادات عشائر البدو فألقوا مقاليد أمورهم و سلموا شأن تصريف أحوالهم إلى رؤساء أمروهم عليهم, و أولوهم حل مشاكلهم و إصلاح ذات بينهم شأن أحكام العرب القبائلية, و لكن يالهول المصيبة فلقد تولى أمرهم من لايهمه أمرهم, و في وقت كانوا أحوج ما يكونون إلى الإخاء و التضامن و نبذ الفوارق, أخذ أولئك الرؤساء يناوئ بعضهم بعضاً و يعمل كل منهم بما يراه من مصلحته, و يحكم هواه في عقله و يسير نزعاتهم و يسير قومه برغائبه و يبث فيهم روح الكراهية لإخوانهم أبناء العشائر الأخر غير آبه لما يؤول إليه حال الجماعة و لا مفكر بمصير الشعب القائم على تصريف أموره المسئول عنه أمام العدالة الإلهية,بحكم السنة المقدسة,( كلكم راع و كل راع مسئول عن رعيته).

أين المنتهون و قد تغلغل في نفوسهم حب الذات و استولى عليهم سلطان الغرور و استبد بهم إيثار الغلبة, فاندفعوا يتخطفون صالح الشعب بأسنة مصالحهم, و يتجاذبون حقوقه بأيدي أطماعهم, يفتحون بينهم لأتفه الأمور و أحقرها باباً للخلاف قصد الاستئثار بمرافق الشعب و مقدراته.

همّ كل منهم إقامة بناء مركزه, و لو على الرؤوس و الجماجم, ضارباً بمصلحة الأمة عرض الحائط, إلى أن كان من جراء هذا التوجيه الفاسد أن أخذ العلويون يغزو بعضهم بعضاً و يسلب بعضهم أموال بعض, و كثر بينهم النهب و عمت الفتنة و اضطرب حبل السفينة و ربانها مخمور تتقاذفه و من معه أمواج الجهل و تعصف بهم ريح الأحقاد, مما جعل أمر إصلاحهم متعذراً و الأمل بنجاتهم ضعيفاً, كل ذلك و هم في غفلة عن أنفسهم و عن المجتمع الذي يرقبهم و هم عنه معزولون, فهو بين راحم لا تتعدى رحمته قلبه, يؤلمه ما هم فيه و عليه و لكن لا يرفع لإصلاح أمرهم صوتاً و لا يمد لتقويم أو دهم يداً, و بين ناقم يتشفى بمصارعهم و يعبث بمصالحهم, و ترتاح نفسه لتخاذلهم و يشجع روح التفرقة فيهم و ينظر إليهم بعين الساخر المحتقر نظرة العزيز إلى الذليل, و لا تربأ به حياة ضميره عن تسفيه أحلامهم و القول بتكفيرهم رغم معرفته بسر تأخرهم و أسباب انحطاطهم, مستهيناً بتقاليدهم التي إذا شكروا على شيء ما في ذلك الوضع السيئ فقد يشكرون على محافظتهم عليها, لأن احتفاظ الأمم بتقاليدها في كل زمان و مكان أكبر العوامل التي تصون كيانها القومي و تساعدها على استرجاع مكانتها المسلوبة,و قد يقول بعض المفكرين(أن الأمة المحكومة التي تحافظ  على لغتها تشبه السجين الذي يمسك بيده سجينه) فكيف بمن تحتفظ بلغتها و دينها و تقاليدها.

لقد اجتاز العلويون في أدوارهم الماضية أدهى و أمرّ ما تجتازه طائفة محكومة في مراحل حياتها, أهواء تتنازعهم و أدواء تصارعهم و جهل يفتك بهم و أمية تسودهم و حوادث مؤلمة تلم بهم و كوارث تنتابهم,و كلما نزلت بهم نازلة تضاءلوا أمامها و استكانوا لها و ازدادوا انكماشاً على أنفسهم و ابتعاداً عن المجتمع فيزداد المجتمع منهم نفوراً و عنهم بعداً و عليهم نقمة و بهم استهانة, و هم عما يعروهم لاهون مشغولون بأنفسهم عن تدارك أمرهم صابرون على بلائهم, مستسلمون لمشيئة القدر فيهم محتفظون بلغتهم العربية و دينهم الإسلامي و تقاليدهم القومية الموروثة و بأصولهم و أنسابهم العريقة, إلى ما قبل قرن و نيف, حيث انبعثت في نفوس بعض قادتهم روح اليقظة و التفكير, فعملوا ما في وسعهم للإنعاش و الإصلاح.

و لما كانت الحرب العالمية الأولى و دخول الكثير من رجال العلويين معاركها الطاحنة في شتى الأصقاع و الأنحاء و في أغلب ميادين القتال عن طريق السوق الإجباري تحركت فيهم نخوتهم العربية و انتعشت في نفوسهم عزتهم القومية الأولى, و طاروا بأرواحهم إلى ماضيهم البعيد, حيث رأوا ذواتهم بمرآة و الكرامة لا على عدسة التلاشي و الخمول.

 

          ثورة العلويين ضد الاستعمار الفرنسي

لما دخل الأجنبي الغاشم هذه البلاد منتدباً عليها كان أحرار العلويين في طليعة من أنكره و استنكر انتدابه, و كانت أول الثورات في الأمة ثورة العلويين التي نشبت في شهر أيار سنة(1919م) بقيادة المجاهد(الشيخ صالح العلي) و مؤازرة لفيف من وجهاء الشعب و قادته و كثير من رجال الجهاد و التضحية, من مختلف أبناء العشائر العلوية, الذين وقفوا في وجه الاستعمار صفاً واحداً متراصاً و أقاموا من صادق وطنيتهم سداً حصيناً بين المستعمر و أمانيه, متعطشين للحرية مستهينين في سبيلها بكل شيء متناسين تفرقتهم بغية الحصول على سيادتهم, مبدأهم الإيمان بالله و الوطن,و غايتهم تطهير البلاد من رجس المستعمرين, يدفعون بقوة إيمانهم كثرة عدوهم و يفلون بجميل صبرهم سلاح خصومهم,يستمدون قوتهم من صدق نيتهم في الجهاد و يستوحون عزمهم من قداسة ما يجاهدون في سبيله يقدمون أرواحهم أضاحي على مذابح السيادة قرابين لله و الوطن, يحثهم شعورهم بالواجب الوطني المقدس و يستصرخهم دم أجدادهم الزكي الناضح بأرج الحرية و عبير الكرامة, فيستجيبون لصرخته بقلوب لا تعرف الخوف و نفوس لا يتسرب إليها الجبن, ينفضون عن جباههم غبار الذل العالق بهم من مخازي الأجيال الماضية,و ينتقمون من كل دخيل على البلاد مستهين بحقوقها و كرامتها, يقاتلون بعقيدة و صبر و يمدهم إخوانهم في الداخل بشيء من الأسلحة و الذخائر, و يأتيهم الشيء الكثير من غنائم حملات العدو المدحورة بين أيدي مقاتلتهم, و قد اشتهرت هذه الثورة ببسالة رجالها المجاهدين الأحرار و بإنهاك الفرنسيين و إهلاك كثير من قواتهم, مما اضطر السلطة العسكرية الفرنسية إلى تجهيز قوات كبيرة لمطاردتها, فقامت في شهر حزيران سنة (1921م) آخر معركة في القدموس دارت فيها الدائرة على الثورة و انتهت بانتصار الفرنسيين و قيام الحكم الانتدابي في البلاد.

    الحكم الانتدابي و عمل أحرار العلويين للإطاحة به    

نزل العلويون عند حكم الواقع و لكنهم غيرهم بالأمس, إذ انطلقوا من عقال العزلة و انفلتوا من قيد التزمت و انتظموا في سلك المجتمع, و تنسموا أرج الحرية المنعش فتاقت إليها نفوسهم و طارت أرواحهم في أجوائها تفيء إلى ظلالها الوارفة, و تستضيء بأنوارها المتألقة, و لكن أنّى لهم ما يرجون, و العدو الرابض على كرسي الحكم في البلاد لا يعلهم من ماء الحرية العذب إلا بمقدار ما تقتضيه مصلحته و يتمشى مع رغائبه, لقد أقام في البلاد عدة دول اصطنع بينها الحدود الواهية و وضع لها الأنظمة المغايرة, تجزئة للبلاد الواحدة و تفريقاً بين أبناء الأمة الواحدة تنفيذاً لخطته المرسومة على قاعدة(فرق تسد).

و من تلك الدول الكثيرة ما اسماه(دولة العلويين المستقلة) التي جعل من قيامها مثاراً للعصبيات الأثيمة و مبعثاً للطائفية البغيضة, و من إنشائها ريحاً تمزق صفوف أبنائها الذين أجمعوا على مقاومته و التقوا على صعيد واحد في إنكاره و استنكاره, و لكنه ما لبث أن عرف من أين تؤكل الكتف, درس نفسيات رجال البلاد و انتهى إلى دخائلها فوجد من بعضها ما تنمو فيه فساده- و هذا ما تصبو إليه نفسه- فبذرها, و أقام على حراستها أمناء من رجاله يتعاهدونها بماء غوايتهم و أحاطوها بجدران من محاسيبهم عوناً على حمايتها و عيوناً على مستأصليها, أضفوا عليهم الألقاب و منحوهم الأوسمة جزاء ما بثوه في الأمة من تفرقة و أكثروا في البلاد من الفساد.

تلك الفئة المرتزقة التي عملت لإنعاش حياة الروح الفردية, و فقدان التضامن الجماعي, أولئك الرجال الذين كان ينصبهم متى شاء و يعزلهم متى شاء, اتخذ منهم مطايا لأغراضه الخبيثة و استخدمهم في تنفيذ مآربه السيئة و أقام منهم سدوداً تتكسر على صلد صفوانها فشار السيوف الحداد, سدوداً مستعصية إلا على عشاق الحرية أحياء النفوس و الضمائر, و كلما ازدادت الحال في البلاد تأزماً من جراء أعمال أولئك الأثمة المأجورين ازدادت نفس ذلك الدخيل ابتهاجاً و خده تصعراً و أطلق يديه بالهبات لصنائعه و محاسيبه من أموال البلاد و مقدراتها, مستهيناً بواجبات الأمة و منتهكاً حرمات حقوقها,فتململ أحرار العلويين الذين يرون الموت في سبيل تحقيق أماني البلاد حياة خالدة و الذل ابتغاء القيام بالواجب عزاً دائماً, و تميزت نفوسهم غيظاً من أعمال ذلك الدخيل الذي عاث في البلاد فساداً, و سقى القلوب ناراً, فعزموا على إحباط مساعيه ببث روح الإخاء و التضامن بين أفراد الشعب و إيجاد فكرة التعاون بين طبقات الأمة, و لكن أمناءه المستشارين الذين كانوا عن طريق عملائهم يرقبون حركات أولئك الأحرار و سكناتهم و يحصون عليهم أنفاسهم ضربوا على أيديهم و جردوهم من كل قوة إلا قوة الإيمان بمبادئهم المقدسة مبادئ الحرية و المساواة التي طالما نادوا بها و دعوا إليها و عملوا في البلاد لنشرها.

و لما رأوا أن الوقت لم يحن و أن لابد من التريث, إذ(الأمور مرهونة بأوقاتها) (و لكل أجل كتاب) وقفوا يتربصون بعدوهم و عدو البلاد الدوائر, و يهتبلون الفرص للإيقاع به, إلى أن كان عام(1936م) حيث نهضت الأمة مطالبة باستقلالها, فنهضوا مجيبين داعي الوطن و ملبين نداء الواجب القومي تبعثها أقلام كتَّابهم على متون الصحف صرخة مدوية في شرق الأرض و غربها, طلباً للسيادة و الاستقلال و ترسلها خطباؤهم أصواتاً مجلجلة في الأجواء نشيداً للحرية, و يسكبها مفكروهم فِكرَاً في النفوس و الخواطر و نوراً وضاء ينير الطريق أمام سواد الشعب فينطَلق سيلاً متدفقاً يتخطى صدور المصاعب و يذلل العقبات و يستهين بالسجون و يستخف بالأضرار التي يلحقها به أعداء البلاد الحاكمون إلى أن أنال الله سبحانه الأمة على صبرها نصراً,و على جهادها أجراً فمنحها حريتها كاملة و وحدتها شاملة, و حقق لها أمانيها بجلاء آخر جندي أجنبي عن أرضها, و ضاعف البارئ تعالى من أنعامه عليها و إحسانه إليها أن قيَّض لها من أبنائها المخلصين و أحرارها المجاهدين رجال عمل و إخلاص و دعاة وحدة و إخاء في العرب نظروا إلى المستقبل بأبصار حادة و بصائر نفاذة فهداهم سمو تفكيرهم و بعد نظرهم لمد أيديهم إلى رائد القومية باعث نهضتها, لا بل علمها الخفاق و مشعلها الوقاد, الرئيس(جمال عبد الناصر) فتوَّحد القطران الشقيقان, و تلاقى الأخوان المتباعدان, و لنا كل الثقة بالله سبحانه أن يحقق لنا على يد هذا الرئيس المفدى, و إخوانه العاملين معه بإخلاص و تضحية لتوحيد العرب كافة, أمنيتنا الغالية ة أنشودتنا المحببة, ألا و هي نصر القومية العربية و وحدة أبناء الضاد من الخليج إلى المحيط خفاقاً علم وحدتهم في سماء المجد و السيادة, عالية كلمتهم في دنيا الرقي و الحضارة, هذه الوحدة التي هي كل ما ننشده و غاية ما نتمناه لا نرضى بها بدلاً و لا نبغي عنها حولا. 

    

                                 نهضة العلويين

أصاب العلويين في شتى ميادين حياتهم ركود قلما سلمت منه فرقة من الفرق, في ادرار تاريخها, و لكن ربما كان فيهم أبعد مدى و أبلغ أثراً, إذ لبثوا في انكماشهم أجيالاً طوالا تعصف بهم رياح المظالم و تعدو عليهم غوائل الأيام و عوادي السنين, تتنازعهم ثلاثة أدواء فتاكة كل واحد منها كفيل بأن يقضي على أية فرقة فكيف بها مجتمعة فيهم, حاكم مضطهد, و مجتمع ناقم, و جهل شامل, إلى أن بعث الله سبحانه فيهم من أنفسهم رجال إصلاح و قادة تفكير أحسوا بما هم فيه و عليه من سوء الحال و شعروا أن الباعث الرئيسي على ما وصلوا إليه هو ابتعادهم عن المدينة و انفرادهم عن المجتمع, فبثوا في أبناء الشعب روح اليقظة و حببوا إليهم العلم, و كرهوا إليهم الجهل و حاربوا فيهم الأمية, في نفوسهم أشعة أنوار الحياة خيوطاً دقيقة تكاد لا ترى بالعين المجردة, ثم أخذت تلك الخيوط تتضح فتجلو غشاوات الأبصار و ظلمات البصائر بفضل سهر أولئك المصلحين على مصالح الشعب و عملهم لرفع مستواه.

ففي أوائل القرن الثالث عشر(هـ) اتصل صاحب الفضيلة المغفور له الشيخ (سلمان بيصين) اتصالاً وثيقاً بإخوانه الشيعة في جبل عامل  و تراسلوا بالأشعار و القوافي و تبادلوا الكتب و الرسائل التي تفوح بعبير الود و تنضح بندى الولاء, و تنطق بصادق الحب و الإخاء, و تفيض برقيق الشعور و العاطفة و تفصح بلسان الشكوى و المعاتبة (و المعاتبة مصغاة القلوب)عما يحسون به جميعاً من آلام الجفوة و القطيعة, و من تلك المراسلات الكثر ما جاء في إحدى قصائد (الشيخ سلمان) الاستشفاع بالنبي الكريم و الأئمة الطاهرين قوله مخاطباً رسول شوقه إلى إخوانه العامليين:

و قل لهم يا موالي آل حيدرة         قاطعتمونا بلا ذنب و معــــــــذرة

عاتبتمونا بأخبار مموهــــــة         بلا دليل لكم فيها و لا ثقــــــــــــة

                    إني أجيب فما للعتب من سبب

هل من دعانا وأنتم يوم دعوته      ينبي بأنا خرجنا  عن مودتـــــــــه

أم جاءكـــم عن مواليه وعترته     أم سيد الرسل أوصى ضمن حكمته

                   حضاً على بعدنا في باطن الكتب

ألية برسول الله ذي العظـــــم          محمد المصطفى المبعوث للأمم

والمرتضى ونبيه سادة الحرم         إلى المرجى بيوم الفوز و النقــم

                   نحن و أنتم سوا في البعد و القرب

فيجيبه أحد إخوانه الإماميين مبتدئاً بالترحيب بقصيدته فيقول:

أهلاً بمن أقبلت تعلو على زحــــــــل           فاقت لبدر الدجى و الشمس في الطفل

جاءت تميس كغصن البان في الميل           من فتية دينهم حب الإمام علـــــــــــي

                          السيد الماجد المولى و ذي الرتب

تشير بالحب و الإخلاص صادقـــــة          و في محبتنا و الود ناطقـــــــــــــــــــة

لأنها لبني الزهرا مواليــــــــــــــــة          و الجبت تشنيه و الطاغوت ماقتــــــــة

                        حقاً يقيناً بلا شك و لا ريب

ثم يستطرد إلى الإستعطاف و التودد فيقول:

و قد ذكرتكم بأنا لا نحبكـــــــــــــــــم            و ترمقونا و نحن لا نودكـــــــــــم

و كيف ذا و مقر الروح عندكــــــــــم            و أنتم الغاية القصوى و قربكــــم

                   يطفي أوام الجوى مع شدة النصب

لكن حكم النوى أسدى إلينا جفـــــــــا          و القلب بالشوق من ألم البعاد هفا

و الطرف من أجلكم ما ذاق طعم غفا          و الجسم من بعدكم ما حل فيه عفـا

                  إذ أنتم القصد لا بل غاية الطلـــب

هذا غيض من فيض مما تضمنته تلك الرسائل الكثر المفعمة بروح الإخاء و الولاء.

و في منتصف القرن الثالث عشر (هـ) كان ممن جاهدوا في الله حق جهاده, و عملوا لمداواة النفوس من ادواء الضعف و الجهالة, صاحب الفضيلة, المغفور له (الحاج معلا) الذي حج إلى بيت الله الحرام, فشق للعلويين طريقاً كانت مستعصية عليهم في تلك الآونة, و استحضر أحد خريجي الجامع الأزهر لتلقّي تجويد القرآن الكريم على يديه و تعلم بعض قواعد اللغة منه, على طريقة الأجرومية و شرحها للكفراوي و ألفية ابن مالك و غيرهما, و بنى جامعاً في قريته التي عرفت فيما بعد باسمه (بيت الحاج), و استنهض الهمم لبناء الجوامع و إقامة الشعائر الدينية و بعث في أبناء هذا الجيل روح الشجاعة لإعلان تعاليم الشريعة السمحة التي كانوا يقيمونها سراً داخل بيوتهم, و حارب فيهم ذلك الخوف الموروث من مظالم الأجيال الرهيبة التي مرت بهم, يشد أزره و يدعم فكرته كل من المجتهدين المجاهدين و العلماء العاملين, السادة الفضلاء: الشيخ(محمود حسين)بعمره, و الشيخ(ابراهيم مرهج) و الشيخ( حسين أحمد) الذين أفنوا أعمارهم في خدمة العلم, و كرسوا أوقاتهم لنصرة الحق, و بذلوا جهودهم لنشر مبادئ التعليم و محاربة الجهل والأمية, و عملوا ما في وسعهم بكل إقدام و تضحية لأداء رسالة الإصلاح و التهذيب إلى أن استأثر بهم ربهم و نقلهم إلى جواره في دار رحمته.

و كان أول من تجاوب مع فكرتهم النبيلة و أجاب دعوتهم الحقة للنهوض بأبناء هذا الجيل من كبوتهم, و تقبلها بقبول حسن و عمل لها جاهداً, صاحبا الفضيلة, الشيخ (ياسين يونس) و الشيخ (عمران الزاوي) فقد بنى الشيخ (ياسين) في قريته جامعاً تؤدى فيه الصلاة و تتلى من على منبره خطب الجُمع الأعياد, وتعهد بعده هذه النهضة المباركة ولده و حفيده صاحبا السيادة: الشيخ( محمد ياسين) و الشيخ(عبد اللطيف الغانم) غفرا الله لهم جميعاً, و ما زال آل الشيخ يونس يحتفظون بهذا الأثر الطيب و العمل الصالح.

كما بنى الشيخ ( عمران الزاوي) في قريته مسجداً و أجري له في كل يوم جمعة صدقة من ماله الخاص بعد أداء الصلاة, يتفقد الفقير و يبر المسكين و يطعم الجائع.

و تبعه بنوه الكرام السيد الشيخ عبد الرحمن, و الشيخ عبد اللطيف, و الشيخ حمدان, و الشيخ أحمد.

في هذه العادة الحسنة و المزية الطيبة التي كادت تكون ملكة في نفوسهم لا منزح لهم عنها و لا محيد, و ما زالوا يقتسمون ‘جراءها بينهم كل جمعة على واحد منهم إلى أن توفتهم الملائكة طيبين و أحلهم ربهم دار رضوانه.

و من العلماء العاملين لرفع مستوى الشعب العلوي في ذلك الجيل الرهيب صاحب المقام الرفيع الذي من العقوق كتمان فضله و جهاده, فضيلة الشيخ (أحمد علي أحمد) الذي نزح من قرية (القلع) في شرقي قضاء(جبلة) إلى قرية ( البهلولية) و إليها نُسب, ثم غادرها إلى (مزار القطرية) في الجنوب الشرقي لقضاء (اللاذقية) حيث مقره الأخير, عطر الله رمسه.

ذلك العلم الذي رأى أن لا وسيلة نافعة و لا دواء ناجعاً لبراء أدواء العلويين و تحسين أوضاعهم إلا العلم و العلم وحده, هو الكفيل لاستعادة مجدهم المسلوب و العامل الوحيد لانطلاقهم في ميادين المجتمع و انضمامهم إلى عقد نظامه بعد ذلك الانقطاع الطويل, و أدرك بثاقب لبه و نفاذ بصيرته أن حلمه ذاك لا يتحقق إلا بمساعدة الحكومة,و غير خفي على المتأمل ما كان يصل إلى ولاة الأمر من صور مشوهة و أقوال مموهة- عن هذه الفرقة العربية المسلمة- يتعمد اختلاقها و تزييفها المصطادون في الماء العكر, فهاله- بادئ ذي بدء- خطورة الموقف فأحجم ملياً, ثم ما لبث أن دفعه إلى التضحية و الإقدام نبل الغاية و شرف المطلب فأقدم بجرأة و عزم على الاتصال بمتصرف اللواء و قد كان لحسن الحظ وجدانياً محباً للخير فاعله, لا تتغلب على نفسه عوامل التعصب و لا تتحكم بعقله نزعات السياسة, ذلك المتصرف هو المرحوم (ضيا باشا).

و بعد تعرف الشيخ عليه و اجتماعه فيه غير مرة كان في كلها موضع إعجابه و تقديره, بحث معه خلالها حالة العلويين, و تطرق إلى الصور المنقولة عنهم إلى الحكام فأراه كيف شوهها الناقلون, و طلب معونته لإنقاذهم من مخالب الجهل و الأمية المطبقة على أعناقهم, و العمل لرفع مظالم التقولات و الافتراء عنهم ببناء مساجد في قراهم تكون مواضع للصلاة و بالوقت ذاته مدارس للتعليم, فوعده المتصرف خيراً و أرشده إلى مناهج النجح في طلبه و هي تقديم رسالة دينية في بيان الحدود الخمس الإسلامية إلى الباب العالي مرفوعة بطلب فتح اعتماد و تخصيص من ميزانية الدولة لبناء مساجد في الجبل العلوي تقام فيها الصلوات و تعلم فيها الطلبة و يرسل إليها المعلمون على نفقة الحكومة, فأسرع الشيخ أخذاً بإرشادات المتصرف إلى رفع رسالته تلك إلى الباب العالي بواسطة متصرف اللواء الذي ذيلها بالشروح اللازمة لتحقيق غايتها, فقوبلت تلك الرسالة بالرضى و الاستحسان, و نظر إلى الطلب بعين القبول و الاعتبار, و وكل الباب العالي إلى المتصرف قضاء حاجة الشيخ و نجح مطلبه إذا رأى ذلك.

و ما إن وصله الأمر حتى استقبله فرحا و طلب الشيخ إليه و أبلغه قبول طلبه و نجاح فكرته, فعملا معاً لبث روح الثقافة في الجبل و بناء المدارس فيه و قد بلغ عددها ستاً و ثمانين مدرسة بنماذج مساجد, و بعث إليها المعلمين يعلمون فيها بعد أداء الصلوات قراءة القرآن الكريم و حسن الخط و العلوم المتبعة يومئذ, و منح الشيخ حرية القول و العمل فكرّس وقته لخدمة الشعب, ينفخ في أبنائه روح النهضة و يحضهم على طلب العلم و يزرع في نفوسهم بذور الألفة و التحابب و يخوّفهم مغبة التفرقة و الإنقسام, إقالة لهم من عثار الأجيال و نهوضاً بهم من مزالق الذل و الضعة إلى شرفات العزة و الكرامة.

و ما زال هذا العالم العامل يقوم بما وقف له نفسه من الإصلاح إلى أن نقله الله إلى جواره في دار رحمته مع الصالحين.

و بنقلة هذا العالم إلى جوار ربه و انتقال المتصرف المذكور من اللواء عاد الدساسون سيرتهم الأولى و وجدوا ضالتهم في من خلفه من الولاة,و خمدت في الجبل قرائح الطلبة بهمود مثيرها, و نشط رجال الهدم بإثارة فتنة في أوساط العلويين غايتها قتل هذه النهضة المباركة, و قد كاد يقضي عليها, لولا أن تداركها الله بعنايته فقيض لها من تعاهدها من شيوخ الدين الصلحاء, و في طليعتهم المغفور لهما الشيخ

(ناصر الحكيم) المعروف في أوساط هذه الجبال بسماحة خلقه و سجاحة طبعه, المأثور عنه استجابة الدعاء و الإخلاص في العمل, فكان موضع ثقة الشعب و معقد رجاء العافين, و الشيخ (محمد سلمان) المشهود له من سائر معاصريه ببعد النظر في عواقب الأمور, المشهور بالمحافظة على أحكام الشرع الشريف و الذي كان القدوة الصالحة بنزاهة القضاء و الإخلاص في الورع حتى أن المتصرف المذكور آنفاً ائتم به غير مرة و في أكثر من بيت من بيوت الله.

و خلف أولئك الأبرار لنشر دعوة الإصلاح و إعلاء كلمة الحق كثير من رجال الجهاد و الإخلاص, كالسيد(مصطفى السيد) و ابنه (السيد ابراهيم) اللذين كانا حجة يرجع إلى فتاويهما في علم المواريث, و الشيخ (عبد الكريم سعد) المشهور بعدل قضائه و فصل قوله, و الشيخ

( ابراهيم عبد اللطيف ) ذلك الذي كان مطمح آمال المتعلمين و محط رحال القاصدين, فكم ارتاد منزله طلبة العلم من أبناء جبل عامل ومن مختلف الجهات يسارعون إلى التقاط فوائد درره و اكتساب فوائد هو غرره, و الشيخ (عبد الكريم محمد) المعروف بحسن بيانه و حصافة رأيه و عذوبة منطقه و دماثة أخلاقه و جمعه أشتات المفاخر و المآثر, و الشيخ ( يونس حسن رمضان) المشهود له بمعرفة أصول الفقه الشريف و فروعه و العمل بأحكامه, و الشيخ (محمد محمود مصطفى) الطيب الذكر و الأثر الرفيع المكانة بالعلم و الأدب, و غيرهم من علماء ذلك الجيل أصحاب العقول النيرة و الأفكار الوقادة الذين كانوا و ما زالوا أعلاماً وضاءة يهتدي بعلمهم و يقتدى بعملهم.

و إني إذ أشير إلى بعض دعاة اليقظة و قادة الفكر في هذه الفرقة المسلمة, التي عبثت بمقدراتها أيدي الظلم و ألسنة السوء و الفساد أجيالاً طوالا, إن هو إلا اعترافاً بفضل الفضلاء و تشجيعاً على الاقتداء بأعمال المصلحين و إقرارا بحق العالمين العاملين, و في مقدمة أولئك الصلحاء المصلحين الذين تألقت في سماء الجهاد نجومهم و ارتفعت في الهيئة الاجتماعية أسهمهم و نشطت في ميادين الحياة أفكارهم و أبقت للأجيال القادمة أثرا طيباً ألسنتهم و أقلامهم, ( الشيخ سليمان الأحمد) الذي تنخفض همة قولي دون أيسر وصفه, و أقل ما أقول فيه إنه الحائز قصب السبق في النشاط الفكري علماً و أدباً, و العامل لرفع مستوى الشعب الشعوذة و الخرافات, و من مراسلاته مع المجتهد العظيم الشيخ (محمد حسين آل كاشف الغطاء) ومن تعليقاته على الكثير من شروح الدواوين الشعرية لكبار الشراح يستدل على علمه بأصول الكلم و غوصه على درر المعاني و حسبه بينة على سمو مكانته العلمية أن كان عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق, و مجازاً من النجف الأشرف بلقب (مجتهد) و أقيم له في حياته (يوبيل ذهبي) تكريماً له و تقديراً لعلمه و أدبه.

و الشيخ (يعقوب الحسن) المتصف بالصفات الحسنى و الأخلاق الكريمة المثلى ذلك الذي جمع بين العلم و الأدب و له في كليهما تآليف قيمة غنية بدرر ألفاظها و جواهر معانيها.

و الشيخ (صالح ناصر الحكيم) الذي أجمع الشعب على قداسته و ألقي إليه مقاليد أحكامه الفقهية و قل أن يوجد أديب علوي معاصر له لم يمدحه تيمناً بتقواه و تبركاً بدعاه, و كثير غير هؤلاء من رجال الفكر و الأدب و حملة لواء العلم قاموا بأداء رسالات الإصلاح في الشعب خير قيام, فمنهم من استأثر به الله فأحله دار رضوانه, و منهم من لا يزال يواصل جهوده منتظراً رحمة ربه, ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا).

و احسبني لا يعوزني البحث في حاضر العلويين و لا التدليل عليهم و فيهم من العلماء و الأدباء و الأطباء و المحامين و السياسيين و المفكرين و المصلحين من يضيق بنا المقام عن ذكرهم, و لهم من سبقهم في ميدان النشاط الفكري و مضمار التقدم الاجتماعي ما يغني عن تعريفهم, و حسبهم مأثرة تدل عليهم سيرهم بركب الحركة الوطنية فقد صحبوها بشتى مراحلها و رافقوها في جميع أدوارها و كانوا و ما زالوا من أشد أركانها, يعملون مع إخوانهم مخلصي الأمة و قادة نهضتها و بصائر نفاذة لنيل الشعب حريته الغالية و سيادته المنشودة

و لأيهم من أعمالهم أصداء تتناقلها أمواج الأثير لتسجلها في بطون التاريخ و تذيعها الأجيال على مسمع الكون نغماً يطرب لها المجتمع و تهتز لها المشاعر إلى أن تتمثلها صورة ناطقة (لمثل هذا فليعمل العاملون).

لقد عملوا لإنقاذ الشعب من الغرق في أمواج الجهل المتقاذفة به على صخور التباغض الأثيم إذ حملوه في سفينة العلم و ألقوا به إلى شاطئ السلام على ألواح التحابب فتفتحت عيناه لأنوار الحياة الحرة, و أعناق المجتمع إليه مشرأبة و أبصاره إليه شاخصة, و ما إن انتظم في سلكه النضيد بعد طول انفراطه منه حتى أصبح عضواً فعالاً من أعضائه البارزة السلمية, يعمل في حقل دنيا العرب بقوة و إخلاص و عزم و تضحية عمل أي عضو قوي صحيح.

 

                            خاتمة

هذا ما وصل إلى تحصيله فهمي و استطاع جمعه و إثباته قلمي من شتات آثار و مآثر العلويين في الأجيال الغابرة ديناً و أدباً و اجتماعاً مع إيماءة خاطفة إلى حوادث مرت بهم في مراحل حياتهم الماضية أودت بمكانتهم الاجتماعية طوال قرون عديدة و عفت على علومهم و آدابهم إلا قليلا تمرد على العفاء و خلد رغم الكوارث و الحوادث و قد أثبت شيئاً منه و أشرت إشارة خفيفة إلى نهضتهم الحديثة و انتظامهم في سلك المجتمع مشيداً بفضل قادة نهضتهم و باعثي روح اليقظة فيهم آتياً على ذكر أسماء بعضهم معتذراً بضيق المقام عن ذكر الباقين لا هضماً لحقهم و لا غمطاً لفضلهم.

و إني لأرجو أن تكون عجالتي هذه جاءت موفية بالغرض المطلوب و محققة الأمل المنشود و إلا فحسبها أنها لم تكن جرياً وراء عاطفة و لا اندفاعاً في تيار مصلحة بل بريئة من الأغراض الزائفة مترفعة عن الأغراض الزائلة رائدها الانتصار للحق و غايتها إظهار الحقيقية.

و إني لأستميح القراء الكرام العذر عن بساطتها و ضعف تنسيقها و ركاكة أسلوبها و عطلها من حلي لآلئ الألفاظ و عجزها عن الغوص على درر المعاني- و لو لم يتطلب موضوعها ذلك- و أعترف بقصر باعي عن إيفاء موضوعها  التاريخي حقه من استقصاء الحوادث و تمحيص الحقائق و جمع شوارد الأخبار ة الآثار لقلة ما في يدي من مصادر و ضيق اطلاعي على مطولات الكتب وعيي عن معرفة أصول التأليف و الكريم من عذر.

و لي كبير الأمل أن لا تلقى إلا منصفاً كبير النفس حر التفكير يرشد بنزاهة و تحرر إلى مواضع النقص فيها للتدارك ملقياً ستائر صفحه على نوافذ ضعفها, أو يحكم عليها بتجرد و تطهر بعد تروٍ و إمعان, و(حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت و هو رب العرش العظيم).

 

                    مصادر الكتاب

1-      القرآن الكريم.

2-      نهج البلاغة, للإمام أمير المؤمنين علي(عليه السلام)

3-      أسرار التأويل في معرفة التنزيل, للقاضي ناصر الدين البيضاوي.

4-      شرح نهج البلاغة, لابن أبي الحديد.

5-      يتيمية الدهر, للثعالبي.

6-      تحف العقول عن آل الرسول, لابن شعبة الحراني.

7-      المراجعات, للسيد عبد الحسين شرف الدين.

8-      الفصول المهمة في تأليف الأمة, للسيد عبد الحسين شرف الدين.

9-      أصل الشيعة و أصولها, للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.

10-  أبو فراس الحمداني, للسيد محسن الأمين.

11-  شرح الشفاء, لشهاب الدين الخفاجي.

12-  الإمام علي صوت العدالة الإنسانية, للأستاذ جورج جرداق.

13-  البداية و النهاية, لأبي الفداء.

14-  العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب, للشيخ ناصيف اليازجي,

15-  التاريخ الحديث, لعزة النص, جورج حداد, بسام كرد علي.

16-  العلويون من هم و أين هم, للأستاذ منير الشريف.

17-  أقرأ: ابن سينا, للأستاذ عباس محمود العقاد.

18-  أقرأ: سيدة القصور, لعلي الجارم بك.

19-  تاريخ الدولة العربية, لأنور الرفاعي و سعد الدين قواص.

20-  الأعلام, لخير الدين الزركلي.