دراسة حول العلويين في تركيا

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء وخاتم المرسلين، وآله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر المنتجبين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؛ وبعد!

هذه دراسة شاملة، وخلاصة وافية، عن المسلمين العلويين في تركيا؛ العلويين الذين ما زالت أقلام الحاقدين والمتعصبين أو الجاهلين والمتعنّتين تنال منهم، والذين ما زال ظلم المتجنين والمأجورين يُمارَس عليهم بكل صفاقة..

ولئن كانت الحقيقة أسطع من ضوء الشمس، ولئن كانت صفة الإسلام السابقة لاسمهم (العلويين) كافية لبيان حالهم وعقيدتهم.. فلا ضير، أو لا بد، من وقفة سريعة شاملة غنية كافية على حالهم وواقعهم، وحقيقة معتقدهم، وآفاق مستقبلهم!

 

 

 

بادئة ومدخل

 

يشكِّل علويو تركيا حوالي نصف علويي المعمورة! ويكوّنون أكثر من ربع سكان تركيا، وهم يجسِّدون ــ بحق ــ صورةَ الظلم الاجتماعي والسياسي والديني (الإنساني الكامل)!

فالمسلمون العلويون في تركيا لم يتعرضوا لأبشع أنواع الفتك والترهيب والظلم والاضطهاد والتجني والتشهير في الماضي وحسب، بل ما زال معظم تلك المظالم يُمارَس عليهم حتى يومنا الحالي بذات المضمون والجوهر ــ وإنْ بصورٍ وأشكال وطرق وأدوات مختلفة ــ، وحقيقته: استخفاف الإنسان بأخيه الإنسان وظلمه له!

وأمام هذا الواقع المرير المؤلم لم تجد النخبة العلوية المسلمة في تركيا سوى حلاً واحداً لخلاصها الجزيء الآني من ظلمها وتهميشها (معاناتها وألمها) وهو: تكريس الواقع الديني والطائفي لها مع ما يعنيه هذا من استمرار الممارسات الفئوية الفردية لبعض الطقوس الدخيلة، أو غير الأساسية، وإسدال الستار على مشروع النهضة والتوعية والإصلاح الديني والاجتماعي المنظَّم والمتناغم مع الماضي العريق والمستقبل الواعد، والمطالبة بالاعتراف بها كأقلية دينية مستقلة، وما يترتب على ذلك من تدريس المذهب العلوي (بصورته الحالية) لأبناء الطائفة بدل المذهب الحنفي السني الرسمي وتخصيص اعتمادات لإنشاء ودعم المراكز الدينية الخاصة، والمساواة في فرص العمل وترقي المناصب أسوة بإخوة الدين والبلد!

ولكن هل يشكل هذا حلاً مناسباً لمشاكلهم، وهل يرفع ــ حقيقةً ــ الظلم عنهم؟

أم سيعمّق المشكلة أكثر ويكرِّس الأزمة أكثر وأكثر..؟!

إن الحلول الآنية، أو المرحلية، غير المبنيَّة على أسس وخطط استراتيجية موزونة ومتكاملة، والتي لا تنطلق من الماضي الأصيل الصحيح وتعبر الواقع بمسحة تنويرية تطويرية إصلاحية جذرية وفرعية شاملة لتصل إلى مستقبل منير مشرق ومشرِّف، بنور وهدي الحق والحقيقة، وبصدقٍ وشفافية ومسؤولية وجرأة، ستؤول (تلك الحلول) إلى الفشل وستؤدي إلى خسارة قد يصعب تعويضها وستكون النتيجة خيبة أمل مهلكة!

لذلك كله على النخبة والقادة والفاعلين أخذ ما تقدَّم بعين الاعتبار، والعمل بحكمة وصبر وتأنٍ ومثابرة لتحقيق المصالح الكبرى للطائفة العلوية، الدينية والدنيوية، تحقيقاً يُرضي الله (بالعودة إلى الأصول والاكتفاء بها) ويُصالح الأمة التركية ككل، فيُعاش بانسجام الوحدة وغنى التنوع وتناغم التعدد المتجانس المتحاب المتكامل..

قال المرجع[1] الإسلامي البارز آية الله محمد علي التسخيري:

{في كل مذهب من المذاهب الإسلامية زوائد وحشو وتطرّف وآراء فردية شاذة، وهذه الزوائد لها دورها في إذكاء نار الفتنة بين المسلمين، وإذا شئنا أن نتخلّص من النتائج السيئة كان على حكماء كل مذهب أن يؤدِّبوا مفرِّطيهم ويعزلوا الشاذين عنهم ولا يؤكدوا على نقاط يستحسن الإغضاء عنها كي نصل جميعاً إلى الهدف المنشود.}[2]

 

 

 

علويو تركيا

 

تشير عبارة "علوي" في تركيا، كما يذهب آلتان غوكالب ــ وهو عالم إنتولوجي ومدير الأبحاث في المعهد الوطني للبحوث العلمية في باريس ــ، إلى أن هؤلاء القوم من أتباع الإمام علي بن أبي طالب (ع) ابن عم النبي (ص) وصهره المستبعَد من الخلافة ورأس أكبر حركة تشيع[3] في الإسلام.. وتشمل مَن لا يعترفون بخلافة النبي محمد[4]، بل يصرون على موالاة الإمام السادس من الأئمة الاثني عشر: الإمام جعفر الصادق.[5]

 

تُقرَن من كلام الناسِ صفةُ "علوي" بتسمية بات يعتبرها معظم العلويين اليوم بمثابة شتيمة، وهي: "كيزيلباش"[6]، أي: "الرؤوس الحمر". ويشير هذا النعت ــ دون أن يعني ذلك مَن يستخدمونه اليوم ــ إلى ثورات الشاه إسماعيل، وقد أدَّت هزيمة هذا الأخير في معركة تشالديران عام (1514) م إلى تعرّض العلويين الذين اعتمروا العمامات الحمر ذات الاثنتي عشرة لفة ــ تيمناً بالأئمة الاثني عشر ــ لأول مذبحة في تاريخهم على أيدي العثمانيين؛ والحقيقة أن تسمية "الرأس الأحمر" هي أقدم التسميات التي يمكن العثور عليها في المصادر الغربية.[7]

وتشير التقارير، وتثبت الوقائع والممارسات، أن هناك أصنافاً متعددة لعلويي تركيا[8]! فمنهم الشيعي الاثنا عشري الصرف، ومنهم العلوي النصيري (الخصيبي) بدرجات وفئات وأنواع هذا الجنس[9]، ومنهم البكتاشيون!

ورغم أنهم يعدون أكثر من ربع سكان تركيا، أي حوالي /18/ مليوناً، يتقدَّم العلويون بثبات نحو إرغام الدولة على الاعتراف بهم كـ: "أقلية مسلمة" بعد ثمانية عقود من إنكار هويتهم الثقافية والمذهبية.[10]

ويسعى العلويون هذا المسعى للاعتراف بحقهم في أن يتمثَّلوا في رئاسة الشؤون الدينية أسوة بالسنة، أو السماح لهم بإنشاء مجلس ديني خاص بهم، وفي إلغاء مادة الدين الإلزامية من المدارس التي تقتصر على تدريس المذهب الحنفي أو إدراج العلوية كجزء من منهاج مادة الدين.. بالإضافة إلى التطبيق الكامل للعدالة في تولي المناصب في ظل استبعاد العلويين عن المناصب الحساسة في الجيش والأمن العام.[11]

يوحِّد علوية العالم، لا علوية تركيا وحسب، حب الإمام علي بن أبي طالب وموالاته! كما يجمعهم نظرتُهم إلى علويتهم أنها: ثقافة وفلسفة حياة![12] ولكن يبقى مع توحّدهم هذا تفرُّقٌ واختلاف!

العلويون في تركيا طوائف وشُعَباً مختلفة في طقوسها واعتقاداتها، يقترب بعضها من شيعة إيران في شرق تركيا، ويمتد بعضها الآخر ليتَّحد مع العلويين في سوريا[13]؛ أما الأغلبية الباقية فهي التي يُطلَق عليها "علوية الأناضول" وهي تختلف عن ما ذُكر سابقاً إذ لها من الطقوس والمعتقدات ما يميزها عن غيرها![14]

 

 

 

العلوية والعلويين بين الأصل والمآل

 

لعله يتوجَّب علينا تعريف العلويين ــ كما اتُّفِق وصحَّ واشتهر ــ لبيان حقيقتهم وأصلهم، ثم التعريف بالمذهب العلوي، ثم بيان العلوية الحقة، ومن ثم الوقوف على الحالة التي آل إليها بعض العلويين.

أقول:

"إن العلويين هم مسلمون، إماميون، جعفريون، يعتمدون أصول الشريعة الإسلامية عقيدة لهم ويطبِّقون أحكامها وِفقاً لمذهب الإمام السادس أبي عبد الله جعفر الصادق ــ عليه السلام ــ".[15]

شاء مَن شاء وأبى مَن أبى، وافق مَن وافق أو خالف مَن خالف، اعترف مَن اعترف أو اعترض مَن اعترض.. من الداخل أو الخارج!

قال المفتي الشيخ، الدكتور، محمد علي حلوم:

العلويون هم المسلمون الموالون لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وتضم هذه التسمية جميع الأتباع والموالين من العلويين الشيعة بكل تسمياتهم وفئاتهم.[16]

أما عن المذهب العلوي فهو كباقي المذاهب الشيعية، يُفضِّل علياً (ع) على غيره، ولم يخرج عن النطاق الإسلامي، إلا أنه تسرَّب إليه بعض الغلو.. فكان رجال المذهب يُفسِّرون الدين الإسلامي كما يريدون، خلافاً لِما تفسره بقية الفرق الإسلامية؛ لكنهم ظلوا مسلمين.[17]

أما العلوية الحقة فهي موالاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حقيقةً، وهي الامتثال التام لأوامره ونواهيه، والنهل من فكره الإسلامي الصافي والعذب، واعتبار نهجه هو النهج والدليل والطريق!

فما صح وثبت من قوله وفِعله وسيرته هو المحجة والميزان!

نقول بقوله، ونأتمر بأمره.

نحمد مَن حمده، ونكفُّ عن ذم مَن كفَّ عن ذمه؛ ونحب مَن أحبه ونوالي فيه..

لا نتجاوز ما صدر عنه من قول أو فعل، ولا نجتهد اجتهاداً يخالف هديه النبوي، حيث لم يكن الإمام علي بن أبي طالب إلا مجسِّداً لسنة نبي الله محمد بن عبد الله المصطفى ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ.

إذن، هذه هي العلوية الحقة، وهذا هو أُس الطائفة العلوية، منذ بدايتها وإلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها..

أما عن حال بعض أبناء الطائفة العلوية المخالف لبعض ما ذكرنا (عن العلوية الحقة) فمردّه إلى الظروف التي مرَّت بها الطائفة من ظلم واضطهاد وقتْل وتشريد نتج عنه انعزال وانغلاق وجهل وتخلف..

إلا أن تلك الصورة الماضية القاتمة، والحالية المتبيِّضة، لم تخلو من جوهر إسلامي إيماني ولائي ثمين، وطيبٍ وصفاءٍ والتزام جميل..

 

 

 

العلويون وبعض الدعاة

 

قلنا في دراسات ومقالات سابقة أن العلوية النصيرية (الخصيبية) ما هي إلا فرع أصيل من العلوية العالمية، بمعنى: عنصر هام أو مكوِّن أساسي من العلوية العامة، وأنها نشأتْ على شيء وآلت إلى شيء آخر، وأن الأقلام المغرضة والمأجورة قد فعلتْ فِعلها الشيطاني في تشويه صورة تلك الفرقة. وما قلناه عن العلوية النصيرية، والذي لم يَرُقْ لكثيرين رغم صحته ومنطقيته وضرورته، يُقال، ونقوله، عن العلوية البكتاشية في تركيا!

فالأصل واحد وإنما التنوّع بالفرع أو بفرع الفرع!

الأصل: الإسلام الصافي، الذي لا غلو فيه ولا تفريط.. وما الدعاة المحقون في الأساس (في الأصل والنشأة) إلا دعاة إلى ذاك الأصل!

وكما وقفنا في دراسة مستقلة على شخصية الشيخ الخصيبي الحقيقية، والذي يلتزم برأيه مئاتُ الألوف من أبناء الطائفة العلوية، نقف على شخصية ولي الله ــ العارف ــ الحاج بكتاش.. والله غايتنا، وبه نستعين.

{الوالي حاجي بكتاش والبكتاشية: اسمه الأصلي محمد بن موسى، وتاريخ ولادته غير معروف بشكل قطعي ولكن يقال أنه وُلد ما بين عامي 1209-1210م وتوفي ما بين 1270-1271م.[18] وحسب المعلومات المتوفرة فإنه أصله من (نيسابور)، وقد قضى طفولته وشبابه في خراسان، وأنه تعلَّم الفلسفة والاجتماع والعلوم على يد معلِّمه "أحمد يسفي".

وعند فساد النظام السياسي والاقتصادي للسلاجقة حاول "الحاج بكتاش" أن يصلح الوضع فجاء من خراسان وزار مناطق الأناضول قرية قرية ومدينة مدينة محاولاً التصحيح.. وبنى مدرسة لتعليم الناس في "سلوجا كارا هويوك"، وهو الاسم القديم لناحية "حاجي بكتاش"؛ وبدأ بتعليم اللغة التركية وتطهير ما لحق بالناس من فساد وتأثير أجنبي، واستطاع في مدة قصيرة أن يجمع حوله الكثير من المحبين والمعجبين.

من أقواله:

· إن من لا يذهب للتعليم فإن نهاية طريقه الظلام.

· علِّموا بناتكم.

· صونوا نسائكم.

· البحث امتحان صغير.

· انظروا إلى عيوبكم قبل أن تنظروا إلى عيوب الناس، ولا تنسوا أن الناس كلهم بشر بمَن فيهم أعداؤكم.

وتعتبر هذه الأقوال الواردة أعلاه هي فلسفة "الحاج بكتاش" والتي جاءت فيما بعد (عام 1948) في ميثاق منظمة حقوق الإنسان العالمية.}[19]

 

 

 

فِكر وممارسات العلويين في تركيا

 

العلويون بشكل عام أهل عرفان، يُعنون بفنون المعارف ويكتنزون علوماً خاصة تجمع ما بين صفوة الفلسفة والمنطق والإلهيات وعِلم الكلام وبين خلاصة علوم الدين (كـ: "زبدة" علوم القرآن، لا سيما حقيقة علم التأويل).

أما ممارساتهم فهي تتأرجح ما بين العلوي الحق الملتزم بالشريعة التزاماً كاملاً ــ حقاً ــ وغير المهتم بالأمور والطقوس الخاصة، وبين العلوي غير الملتزم تماماً بظاهر الشريعة المعتمد على حقائق وجواهر علوم طائفته الخاصة.

لكن، وعلى أي حال، يبقى للظلم الذي تعرَّضت له الشيعة عموماً، والعلوية خصوصاً، اليد الطولى والدور الأكبر في معظم مظاهر تلك الطقوس الغريبة وركائزها، بل وأصولها!

فلو أخذنا الشيعي، أو العلوي، الذي كان يرغب بأداء صلاته وِفق المذهب الجعفري هل كان له ذلك دون تعريض حياته وماله وعرضه للخطر الحقيقي في كافة الحقب السالفة السوداء؟

فإذا كان هذا حاله مع الصلاة الصحيحة السليمة التي هي عمود الدين، والتي تم الاعتراف بها وبالمذهب الذي تُقام وِفق فقهه من قِبَل أكبر وأعرق وأقوى وأقدم مرجعية إسلامية (الأزهر الشريف)، فماذا سيكون حاله لو احتفل بعيد الغدير أو لو أقام مأتماً يوم عاشوراء؟! ...

لذلك كان على العلوي أن يفر بجلده إلى أمنع وأبعد حصن يمكنه اللجوء إليه، وأن يختفي عن العيون ويستر نفسه.. مخافة الظفر به؛ وأن يُمارِس صلاته ورواتبه الدينية ــ الصحيحة من حيث المنشأ والأصل ــ بعيداً عن الأنظار، وفي المنازل والخلوات!

ومن هنا نشأت بيوت الجمع، ومن جراء استمرار تلك الظروف القاسية الصعبة أخذ العلوي يخنق نفسه شيئاً فشيئاً في عزلة لا تليق به وبماضيه العريق..

وهكذا تكوَّنت تربة خصبة ومناخ مناسب للانحراف، ولنشوء تيارات جديدة ولاستيلاد عادات غريبة..!

أما السؤال الذي يطرح نفسه بقوة وإلحاح هو:

إذا كان الواقع اليوم هو نتيجة القهر والتقهقر.. فلماذا لا يُغيَّر بأحسن منه؟

بمعنى: لماذا يسعى علويو تركيا إلى إرغام الحكومة للاعتراف بأماكن عبادتهم المعروفة باسم "جيم أيفي" (بيت الجمع)، وتخصيص المال اللازم من ميزانية الدولة لبنائها ومواجهة مصاريفها، أسوة بالجوامع والمساجد..؟!

الجواب:

ليأسهم من السلطة وأُولي الأمر والشأن من إخوانهم السنة!

فلو قالوا نريد جوامع لقالت الحكومة سنبني الجوامع ولكن بشرط أن تتبع للمذهب الحنفي الرسمي.. وبهذا سيواجهون معظم أبناء طائفتهم نفسها، من الطغمة المستفيدة من الأوضاع المتردية للطائفة العلوية والتي تخشى تغيُّر الحال إلى التواقين للإصلاح والتنوير، من دون أدنى فائدة بل على العكس تماماً!

أما لو قالوا نريد أن نبني حوزات علمية، أو حُسينيات.. لقالت الحكومة هذا نغم صفوي ونفـَس فارسي.. ولحوربوا أشدّ حرب!

الحقيقة أنهم يريدون الخلاص، ويتوقون إليه؛ والحقيقة أن فيهم من الإصلاحيين والغيورين ما ليس في غيرهم، لكن الظرف أقوى منهم ومن إمكاناتهم.

إذن، ماذا عليهم أن يفعلوا؟

هل عليهم أن ينتظروا الفرج، ويُخلوا الساحة للقائمين على الأمر من أبناء طائفتهم ومن خارجها، ليسرح كل واحد منهم في ميدان تحقيق مصلحته وممارسة أهوائه.. وبهذا تُعمَّى الأمور ويضيع الصالح بالطالح، وتترسَّخ الأفكار والقناعات الثابتة والمسبقة؛ ويغيب الحق وتتلاشى الحقيقة إلى أجل غير مسمى!

أم عليهم العمل بلا يأس ولا هوادة حتى تحقيق أهدافهم النبيلة المشروعة؟!

(أسئلة برسم الإجابة)

وبالعودة إلى صلب موضوع هذه الفصل "فِكر وممارسات العلويين في تركيا" أقول:

يمكننا تلخيص مراحل التدرّج الديني لدى العرفانيين من أبناء الطائفة العلوية، وهي عينها لدى جميع العرفانيين في مشارق الأرض ومغاربها، بثلاثة مراحل تقود كل منها إلى الأخرى بشكل متسلسل!

· الشريعة.

· الطريقة.

· الحقيقة.[20]

تمثِّل الأولى ما يُعرَف بعِلم الظاهر، أو: المعرفة. وتمثِّل الثانية: ما يُعرَف بعِلم الباطن، أو: معرفة المعرفة، بمعنى: المعرفة العميقة. وتمثِّل الثالثة: ما يُعرف بباطن الباطن، أو: معرفة عرفان المعرفة، بمعنى: لب المعرفة أو قرارها..

قال الأستاذ علي محمد الموسى:

المسلمون العلويون أصحاب طريقة صوفية شأنهم شأن أصحاب الطرق الصوفية في الإسلام تعبَّدوا بها منذ القرن الثالث الهجري[21]..[22]

وقال المرحوم الحاج، الشيخ، عبد الرحمن الخير:

{إن طرق التصوُّف هي أساليبٌ للذكْرِ يطلع عليها بعضُ الناسِ دون بعضٍ، وقد يوجد أستاذٌ يأخذ بطريقةٍ ما من طرق التصوف ويرفضها تلميذه، أو أنه لم يطلع عليها، كما قد يوجد ابن يأخذ برأي متصوف في حين أن أباه وأخاه، وهما في مرتبته العلمية، يسفِّهان ذلك الرأي أو يرفضانه، أو لم يطلعا عليه. وهذا عام عند جميع السالكين في طرق التصوف المتعددة، حتى أن أبناء الطريقة الواحدة يختلفون فيما بينهم حول تفسيرٍ أو رأي أو أسلوب، فتنشق الطريقة إلى شعب متعددة. وبرغم كل هذا فإن السالكين في أية طريقة صوفية هم قلة بالنسبة إلى مَن لا يهتمون بالطرق من جميع فئات المسلمين على اختلاف مذاهبهم.}[23]

وقال أيضاً ــ طيب الله ثراه ــ:

{نعم يوجد أفراد قلائل من المسلمين العلويين يؤمنون بالباطن وبالتأويل كما يوجد أمثالهم من العلماء المسلمين السنيين من المتصوفين الذين يقولون بالباطن وبالتأويل وبالأسرار الدينية والأدلة المنقولة من مصادرها المثبتة والواردة في القسم الثالث من هذه الرسالة تؤكد هذا وكذلك التناسخ يؤمن به بعضهم وينكره البعض الآخر لعدم تثبتهم من الروايات القائلة به وهو ليس عقيدة دينية بل نظرة تعليلية لما يرونه من حوادث لا تنسجم مع العدل الذي هو الثاني من أصول الدين الخمسة عندهم.

المسلمون العلويون قديماً وحديثاً هم جميعاً على المذهب الجعفري المعروف. وهم مسلمون، مؤمنون، إماميون اثنا عشريون وبهذا يختلفون عن الإسماعيليين ولا مذاهب كبرى ولا صغرى تميزهم عن المسلمين الشيعة الجعفرية والجهل الديني المنتشر بين جماهيرهم كما هو بين جماهير الشيعة والسنة من مختلف المذاهب وفي مختلف الأقطار الإسلامية ولا يجوز اعتباره عقيدة لهم ولا لغيرهم وقول بعضهم بالتصوف أو بالتناسخ لا يعده عقيدة لهم إلا ذو غرض يعتمده للتشهير والتشنيع المخالف للتعاليم الإسلامية التوحيدية ومن الظلم المخجل اعتباره عقيدة لقوم وعدم اعتباره عقيدة لآخرين مثلهم.}[24]

وقال الشيخ الدكتور محمد حسن البادياني النيسابوري:

أهل العرفان إذا ذكروا في معرض المعرفة دُعوا بالعُرفاء، وإذا ذُكروا في معرض أمر اجتماعي دُعوا بالمتصوفة.[25]

 

 

 

آفاق وآمال

 

لانتشار العلويين في شتى بلدان المعمورة، وتنوّع مشاربهم، وغناهم الحضاري، وإرثهم الثقافي، وانفتاحهم، وحُسن انخراطهم بالمجتمعات الغربية والشرقية، بُعدان كبيران. بُعد داخلي يقوِّي الطائفة من الداخل، وبُعد خارجي يحمي الطائفة من الخارج ويُجمِّل صورتها. كما أن للعدد الكبير لأبناء الطائفة العلوية، النسبي قياساً بالأقليات، في سائر أصقاع الأرض، وتبوّء قسم كبير منهم أرفع الدرجات العلمية والاجتماعية والسياسية، أثر كبير وهام على قوة أبناء الطائفة ونظرتهم إلى أنفسهم وبالتالي قوة عزيمتهم ونظرتهم إلى المستقبل!

وعلى ضوء ما تقدم، ونظراً لتشكيل أبناء الطائفة العلوية في تركيا تلك النسبة الكبيرة من أصل سكانها، يمكن لهم أن يحلموا كما يشاءوا، وأن يخططوا ويعملوا!

يمكن لهم أن يحلموا بوحدة الصف العلوي على الصعيد الديني وإنْ بمرجعية متعددة ولكن المهم أن تكون المؤسسة واحدة، وكذلك على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.

يمكن لهم أن يحلموا بالإصلاح والتصحيح، والتطوير والترقي، على الصعيد الداخلي والخارجي؛ علمياً وعملياً.

كما يمكنهم أن يحلموا بغدٍ أفضل، يحققون فيه الاندماج التنوّعي التكاملي الخلاق، والذوبان في مجتمع تركي واحد، يحفظ لهم هويتهم الثقافية والتراثية والأخلاقية المميزة، ويصحح لهم حالهم الديني والاجتماعي والسياسي..

يمكنهم أن يحلموا بكل ذلك، وبأكثر منه، وأن يعملوا على تحقيقه، وأن يحققوه فِعلاً!

فمواردهم البشرية هائلة، ابتداءً من مخزون وأثر عراقة ماضيهم (إرثهم الحضاري والفكري الكبير) مروراً بطبيعة مناطقهم الخلابة الغنية وانتهاءً بمستوى ذكاء أفرادهم العالي..

يضاف إلى مواردهم تلك: المحيط العام حولهم، من سوريا اللاطائفية القوية الحضارية المنفتحة عليهم، إلى إيران القوة والمجد والدعم، إلى العراق الأصل والتراث والحضارة..

فهل يستفيق مَن نام أو مَن غفل منهم، وهل يشحذ الهمم مَن أبصر ذاك النور....؟

 

 

 

خاتمة

 

 

أردتُ من بحثي هذا ــ على الإجمال ــ النقاطَ التالية:

· كشف الظلم عن الطائفة العلوية في تركيا العزيزة.

· المساعدة، والمساهمة، في النهضة الواعدة لأهلنا في تركيا الحبيبة.

· شد أزر المسلمين بوحدتهم وقوتهم..

· أن يعم الخير والسلام في كل بلد يوجد فيه مسلم، أو إنسان يحترم فطرته السماوية..

فكتبتُ بالصدق، وأشرتُ بالحق، وتغافلتُ عن تفاصيل لا يُغني ذكرها ولا يثمر.. أملاً بتحقيق ما صبوتُ إليه من بحثي المتواضع هذا.

فأرجو من السادة القراء الأعزاء تجاوز زلتي، وإقالة عثرتي.. والدعاء لي، ومؤازرتي في مشروعي الإنساني الإسلامي الكبير..

والله غايتنا، وعليه اتكالنا؛ ونعم المولى ونعم النصير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

دراسة وإعداد وتقديم

الفقير لله تعالى

سام محمد الحامد علي

 

الحواشي:

[1] مرجع بمعنى: قطب عام. لا: مقلَّد عند بعض الشيعة.

[2] حول الشيعة والمرجعية، آية الله محمد علي التسخيري، المجمع العالمي لأهل البيت ــ ع ــ، ط1، ص93.

[3] تطلق كلمة تشيع بمعنى الاتباع.. أيْ: أكبر حركة انضم إليها أشياع وأتباع ومريدون ومؤيدون..

[4] يعني خلافة الثلاثة الذين خلفوا النبي محمد ــ ص ــ.

[5] العلويون في سوريا: نشأتهم ـ تطورهم ـ تعدادهم، سمير عبده، دار حسن ملص، ط1، ص93.

[6] أو: القيزلباش.

[7] مجلة شؤون الأوسط ـ بيروت، العدد 63، ص64-65.

[8] انظر: ديانة العلويين في الأناضول ـ العربية نت.

(http://www.alarabiya.net/programs/2004/12/18/8796.html)

[9] كعلوية سوريا ولبنان تماماً. فلولا البكتاشية، أو اتباع العارف بالله الحاج بكتاش، لِما كان من داعي لدراسة دينية مفصَّلة لعلويي تركيا، إذ ما يُقال عن علوية سوريا يمكن قوله عن علوية تركيا مع اختلاف طبيعي بنِسب كل نوع.

(لا يوجد في سوريا أحد من البكتاشيين، بل ربما جهل السواد الأعظم من علوية سوريا اسم الحاج بكتاش فضلاً عن حاله!)

[10] العلويون في سوريا، سمير عبده، ص92.

[11] جريدة السفير ـ بيروت، عدد: 22/9/2005.

[12] انظر تقرير قناة الجزيرة (الإخبارية ـ القطرية): مراسلو الجزيرة.

(http://www.aljazeera.net/channel/arc...chiveId=110212)

[13] هناك جزء من أراضي تركيا اليوم هي أراض سوريا، وسكانها بأغلبيتهم عرب أقحاح!

قال الباحث منذر الموصلي:

ظل لواء اسكندرون تابعاً لحلب حتى عام 1924م، ثم أصدر المفوَّض السامي قراراً جعل فيه للاسكندرون نظاماً إدارياً ومالياً خاصاً. وما عتموا أن رجعوا عن ذلك بتاريخ 12/حزيران/1926م، فألغوا استقلاله وأدخلوه في نظام قاعدة اللامركزية للبلاد السورية. ويتألف لواء اسكندرون من مدن: الاسكندرون، وانطاكية، وبيلان، وقرقخان؛ وهو متاخم لتركيا. ولم يلبث الفرنسيون أن سلموه لتركيا بموجب معاهدة، وبالاستناد إلى استفتاء مزوَّر جرى عام 1937، وخلافاً لصك الانتداب. وما تزال سورية ترفض الاعتراف بهذا الضم، وتجعل اللواء في حدود الخرائط الرسمية للدولة.

[البحث عن الذات: العلويون العرب السوريون: الأصول ـ الجذور والانتماء، منذر الموصلي، مطابع الداية ـ دمشق، ط1، ص25]

[14] انظر تقرير قناة الجزيرة (الإخبارية ـ القطرية): مراسلو الجزيرة.

(http://www.aljazeera.net/channel/arc...chiveId=110212)

[15] الهداية الكبرى، الحسين بن حمدان الخصيبي، مؤسسة البلاغة، مقدمة الناشر، ص16.

[16] النهج العلوي في الفقه الإسلامي، الشيخ الدكتور محمد علي حلوم، دار عماد، ص18.

[17] المسلمون العلويون مَن هم وأين هم، منير الشريف، مؤسسة البلاغ، ط2، ص109.

[18] قيل أنه ولد في القرن السابع عشر الميلاد حسب ما ورد في بعض المراجع كالمنجد في الأعلام، و: ديانة العلويين في الأناضول ـ العربية نت.

(http://www.alarabiya.net/programs/2004/12/18/8796.html)

[19] من موقع وزارة الثقافة والسياحة في تركيا:

http://www.kultur.gov.tr/AR/BelgeGos...7E923BC030BA43

[20] انظر للاستئناس: العلويون في تركيا، حنان أتلاي، موسوعة النهرين.

(http://www.nahrain.com/d/news/04/01/29/nhr0129j.html)

[21] الإمام علي والعلويون: دراسة وتاريخ وتراجم، علي محمد الموسى، دار الفتاة، ط1، ص5.

[22] انظر للاستزادة: كتابات الأستاذ الدكتور أسعد أحمد علي لا سيما كتابيه معرفة الله والمكزون السنجاري و: فن المنتجب العاني وعرفانه، ودراسات الأستاذ حامد حسن حول المكزون، وكتابات الشيخ محمد علي حلوم المختلفة كــ: الظاهر والباطن في الإسلام، دار عماد ــ اللاذقية، ط1. و: الله والحقيقة، دار عماد ــ اللاذقية، ط1. و: علي ومعرفة الله، دار عماد ــ اللاذقية، ط2. وكتابات الشيخ حسين محمد المظلوم مثل كتاب: الشيخ الخصيبي قدوة مثلى يحتذى، دار المحجة البيضاء، ط1. وكتابات الأستاذ حسن يونس حسن ككتابه: منابع العرفان عند الشيعة الخصيبية، مطبعة آل البيت ــ بيروت، ط1..

[23] تاريخ العلويين، محمد أمين غالب الطويل، المقدمة للمرحوم الشيخ الحاج عبد الرحمن الخير.

[24] رد الشيخ الخير على الدكتور شاكر مصطفى. (منشور على صفحات الموقع)

[25] العلويون هم أتباع البيت، الشيخ الدكتور محمد حسن النيسابوري، دار الإرشاد، مج6، ص37.

 

***************انتهى*****************

أرسلت من قبل الكاتب سام علي إلى موقع المسلمين العلويين

alawi12.tripod.com

alawi.tk@gmail.com